لعلك عزيزي القارئ- تعلم الفرق بين البصر والبصيرة، فالبصر هو ما نراه بعيوننا المجردة، أما البصيرة فهي ما نستطيع أن نتخيله ونراه كإلهام أو تصورنا لأحداث معينة يثبت صحتها فيما بعد، أو ما يطلق عليه أحيانا الحاسة السادسة عندما يتذكر إنسان شخصًا ما لم يره من زمن ثم يلقاه، أو يسافر الإنسان إلي بلد معين ويري منظرًا مألوفًا لديه فيبدأ في التركيز والتذكر أين رأي ذلك المكان؟ وأخيرًا يتذكر أنه قد حلم به قبل أن يسافر إليه، أو أم تفزع من نومها متذكرة ابنها المسافر وعندما تتحدث إليه تعلم أنه اجتاز في أزمة ما في الوقت الذي تذكرته فيه أو تعرض لحادث ما.. إلخ، ولقد حاول العلماء علي مدي سنين طويلة اكتشاف السر وراء هذه البصيرة ومصدرها؟ وما الذي يستدعيها؟ وفي أي منطقة من مخ الإنسان توجد هذه الأمور؟.. إلخ، ولقد توصل العلماء إلي بعض النتائج التي يمكن الاستدلال بها رغم أن هذه الأبحاث تحتاج إلي تدقيق أكثر لأن نتائجها جاءت صادمة لبعض التراث المتوارث، ولمن يستدعون هذه الأمور كنوع من الخوارق أو الإيمانيات. فمثلا فسر بعض العلماء أن هناك مركزًا في المخ إذا ركز الإنسان قبل أن ينام في شخص يحبه مثل الأب المتوفي أو الأم أو الأخ أو الابن، أو في قديس أو نبي أو ولي من أولياء الله، فإن هذا المركز يستحضر الصورة المتخيلة عن الشخص، فيحلم هذا الشخص بالقديس علي الشكل الذي تخيله هو فيه، أو الصورة التي يراها أو التي جسمها أحد الفنانين أو يخبره الشخص الذي في الحلم أنه فلان الفلاني إن كانت لا توجد للحالم صورة ذهنية عن الشخص المستدعي، وهكذا يستيقظ الإنسان سعيدًا ويحكي كيف أنه رأي أباه أو أمه أو القديس أو الولي الذي يفضله.. إلخ، وأحيانا يقوم هذا الشخص المستدعي بإجراء معجزة للذي استدعاه ويكون الحالم يعاني من مرض ما، وأحيانًا يشفي هذا الشخص لإيمانه الكامل في الشخص الذي قام بزيارته في الحلم، فالإيمان هنا له دور عظيم في شفاء الإنسان، وهذا موجود في كل الأديان، ويتحدث الرهبان البوذيون عن قدرتهم علي الشفاء للأمراض من خلال إيمان المريض بقدرتهم تلك، بل هم يقومون مثلا بعد التركيز الشديد أن يرتفعوا عن الأرض أي يتحركوا ضد الجاذبية الأرضية، أو يجتازون في النار.. إلخ. أما أولئك الذين يرون أولياءهم وقديسيهم وأحباءهم الذين رحلوا وهم في نزعات الموت، ويراهم المحيطون بهم وهم يتحدثون إليهم وكأن هؤلاء البشر المنقولين إلي الحياة الأخري قد أتوا إليهم ليتسلموا أرواحهم، ويبدو علي المؤمنين الذين علي شفا الموت السعادة ويرفعون أيديهم متحدثين إلي أرواح الموتي الذين أتوا إليهم، فقد فسرها العلماء علي أن الإنسان وهو ينازع الموت تقل كمية الأكسجين التي تصل إلي المخ، والمعروف أنه عندما تقل نسبة الأكسجين يتخيل الإنسان من يعرفهم ويحبهم من الذين انتقلوا ويبتهج برؤاهم. أما إذا كان شريرًا مطاردًا من خطاياه ولديه شعور بالذنب فيري «إبليس» وأعوانه وقد أحاطوا به، أما حالة الأم التي تشعر بالابن علي بعد والصديق الذي نفكر فيه ونراه فجأة فكل هذا يرجع إلي انشغال الأم والصديق بعقله الباطن، ما يجعل الإنسان يحس بما يحدث عن بعد، ولقد مررت شخصيا بشيء غريب من هذا القبيل وهذا عندما سافرت إلي جنيف لأول مرة وجلست أمام بحيرة جنيف المشهورة ونافورتها وتهيأ لي أني رأيت هذا المنظر من قبل بكل تفاصيله حتي المكان الذي جلست فيه وزاوية النظر وكل ما يحيط بي، وبعد رجوعي إلي السكن تذكرت جيدًا أنني حلمت بهذا المكان. لكني تذكرت أيضًا أني قرأت كثيرا قبل الحلم عن سويسرا وجنيف قبل سفري إليها وأعجبني ما قرأته عن البحيرة والنافورة وفي دراسة أخيرة أثبتت أن الإنسان يستطيع أن يحل معضلة أو لغزاً صعباًً عن طريق الإلهام المباشر «البصيرة» أسرع من التحليل المنطقي وذلك إذا كان ذلك بعد استماعه لنكتة ساخرة أو مسرحية كوميدية وهو ما يدعونه بالمزاج الإيجابي، ويكون العقل أقل إلهاما إذا حاول حل اللغز بعد مشاهدته فيلما حزينا، واكتشف العلماء أن هناك منطقة في المخ مسماة بالقشرة الحزامية الأمامية والتي تنشط عندما يزيد انتباه الإنسان ويركز في مسألة ما أو شخص ما ويبعد كل ما يشوش عليه، وقد توصل الباحثون إلي أن المراكز البصرية عند الإنسان عندما يكون مزاجه معتدلا يلتقط مزيدا من التفاصيل ما يجعل حلوله للمشكلة أكثر إبداعا وكأنه إلهام. لذلك أدعوك عزيزي القارئ- أن تقوم بعمل ما كي تكتسب مزاجًا إيجابيا أن تصادق إنسانًا خفيف الظل يجعلك مبتسما في حديثه ويحكي لك بعض النكات، أو تشاهد بعض اللقطات من مسرحية «شاهد ما شفش حاجة» أو أي شيء آخر يجعل مزاجك معتدلا ثم حاول بعدها مباشرة التركيز في حل لغز صعب أو معضلة ما وإذا نجحت أرجو أن تدعو لي وتركز علي حتي نتقابل في أقرب فرصة ولو حتي في الحلم. أستاذ مقارنة الأديان بكليات اللاهوت