من الأمور التي جعلتنا نشبه ما حدث من تسريبات للوثائق الأمريكية بالإعصار في مقالنا بالأمس هو أنها أدت إلي إثارة الجدل والنقاش بشأنها في مناطق واسعة وممتدة من العالم .. بل يمكننا القول إنها مست دول العالم كله .. خاصة أن الدولة التي " سُرِقت منها ملفاتها وأرشيفها" هي الدولة الكبري التي لها علاقات ومصالح مع كل دول العالم تقريباً .. وقد انشغلت كل دولة بالوثائق التي تخصها، وبالملفات التي تتعلق بها أو تمس مصالحها .. ومن هذه الدول مصر. وقد تعلقت الوثائق الخاصة بمصر التي تم تسريبها بموقف مصر والرئيس مبارك من القضايا الإقليمية والتي ذكرها للمسئولين الأمريكيين أثناء زياراتهم لمصر، مثل موقف مصر من غزو العراق ، ومن الانسحاب الأمريكي منه، وكيفية التحرك في إطار التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل، وكذلك الجهود المصرية لتطويق الأزمة في السودان، إضافة إلي الموقف من " المفاعل النووي الإيراني" .. وغيرها من القضايا المهمة. وقد أفردت كثير من الصحف المصرية والعربية صفحاتها وتغطياتها لما كشفت عنه هذه الوثائق ..وتعاملت معها بأنها تقدم سبقاً جديداً لقرائها ولجمهورها، علي الرغم من أن معظم ما جاء في هذه الوثائق هو مواقف معلنة لمصر وللرئيس مبارك ، وليس فيها ما يمكن اعتباره سراً أو مفاجأة غير متوقعة. فعلي سبيل المثال، كشفت الوثائق عن معارضة مصر والرئيس مبارك لغزو العراق، وتحذيره المتكرر للرئيس بوش الابن بشكل مباشر أو عبر والده بوش الأكبر.. وهو ما كرره الرئيس مبارك في أحاديثه مع جون كيري وغيره من المسئولين الأمريكيين الذين التقي بهم في القاهرة .. وهذا الموقف المصري ليس جديداً، فقد ذكره الرئيس مبارك في أحاديث إعلامية كثيرة .. كما أنه يأتي للرد علي مزاعم جورج بوش في كتابه «نقاط القرار» والتي أشار فيها إلي أن الرئيس مبارك هو من أخبره بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ، ومن ثم اتخذ قرار الحرب (منتهي الاستخفاف والسذاجة) .. جاءت الوثائق الأمريكية لتكذب بوش وتفضح سذاجته. وفيما يتعلق بقضية العراق والانسحاب الأمريكي منه، أشار الرئيس مبارك في لقاءات كثيرة إلي أنه علي الولاياتالمتحدة أن تعيد الأوضاع الأمنية المستقرة إلي العراق قبل أن تغادره أو تنسحب منه، وإلا سيتحول العراق إلي ساحة للحرب الأهلية، وفي هذا خطر علي المنطقة بأسرها .. كلام الرئيس مبارك معروف ومنشور، ومنطقه سليم ولا غبار عليه. إن الخاصية الكبري التي تميز السياسة الخارجية المصرية في عصر مبارك هي أنها أحادية الخطاب، بمعني أن خطابها في الغرف المغلقة هو نفس حديثها للجمهور العام، ومواقفها التي تبديها في الاجتماعات السرية هي نفسها التي تعلنها علي الملأ .. فليس علي رأس مصر «بطحة» تخاف عليها من الآخرين، وليس لنا فضائح (مثل البعض) نخاف أن يطلع عليها الآخرون، ولعل هذا هو سر قوتها، ومصدر عظمتها.