كما في السياسة كذلك في الكنيسة، هذا ما يستنتجه كل من يقترب من الأروقة الفاعلة في كليهما، وهو أمر يفرضه تشابك العلاقات البينية والمهام الجسام الملقاة علي عاتقها والصراعات التي تفرض نفسها سعياً للسلطة في الاولي والقيادة في الثانية، وأنا هنا لا أتحدث عن الجانب الروحي أو الإيماني فذلك له ضوابط وآليات مختلفة، لكنني أبحث في ادارة الاعمال والأفراد والكيان ذاته، وصولاً في الكنيسة الي تحقيق الهدف الأسمي المكلفة به انجيلياً وهو في ظني تحقيق بشارة الملكوت من خلال معرفة حقيقية بالمسيح له المجد . ويأتي الهيكل التنظيمي الكنسي علي رأس الآليات التي تتوقف عليها قدرة الكنيسة علي تحقيق هدفها في العالم، لذلك يبقي السعي لوضع قواعد وضوابط محكمة لانتخاب البابا مطلباً ملحاً اليوم وغداً وفق حاجيات الكنيسة ومتغيرات العصر التي تتطلب فهمها حتي لا تبتلع الرسالة الروحية للكنيسة. ويذكر معي القارئ أنني طالبت علي مدي سنوات بحاجتنا الي مراجعة لائحة انتخاب البابا الحالية والصادرة عام 1957 بعد أن تجاوزها الزمن، في اركانها الثلاثة الناخب والمرشح وضوابط الاقتراع واعلان النتيجة، ويزداد الأمر حساسية وتعقيداً في زماننا هذا الذي تداخلت فيه الأبعاد السياسية مع الروحية الدينية والاجتماعية، وانتباه مؤسسات عديدة الي خطورة هذا الموقع وهي بدورها تسعي لتأمن جانبه، ربما لهذا قلت يوماً إننا بحاجة الي قانون منظم لهذه المهمة وليس مجرد لائحة . ورغم أن أصواتا عديدة طالبت بهذا إلا أن الموقف الكنسي المعلن تجاهل تماماً هذا المطلب ربما بعد أن تم علي مدي اربعة عقود إقصاء وتحجيم الدور العلماني داخل الكنيسة لتبقي خيوط القيادة في يد الإكليروس علي مختلف الأصعدة، وهي قضية قديمة متجددة تمت السيطرة عليها بالاحتواء، كما حدث في شأن المجلس الملي مؤخراً عندما تم تجميده وفق تصريحات قداسة البابا بعدم دعوته للانعقاد. علي أن اروقة الكنيسة تشهد تحركات احيطت بقدر كبير من الكتمان والسرية لتمرير لائحة جديدة تقول بعض المصادر القريبة إنها تتناول بعض التعديلات حتي تحكم قبضة بعض الشخوص لتأتي بأحدهم، وأهمها وفق ما يتم تسريبه من بعض الاجنحة: تشكيل اللجنة المشرفة علي الانتخاب بدءاً من قبول طلبات الترشيح ومراجعة الشروط الواجب توافرها في المرشحين وتتكون من سبعة من الأساقفة والمطارنة من غير المرشحين بالإضافة الي سكرتير المجمع المقدس بصفته حتي لو كان من المرشحين !!. ولهذه اللجنة الحق في استبعاد أي من المرشحين دون ابداء الأسباب ويكون قرارها نهائياً !!، فإن صح هذا نكون أمام صورة جديدة لترزية القوانين، وهو ترف لا تحتمله الكنيسة ويؤثر سلباً علي استقرارها، وفي مادة أخري تم الابقاء علي القرعة الهيكلية كوسيلة لاختيار الفائز الأخير بالمنصب وهو أمر يفتح الباب علي مصراعيه للطعن علي شرعية الانتخاب لتعارضه مع المبدأ الكنسي الذي رسخه ونادي به قداسة البابا شنودة الثالث " من حق الشعب ان يختار راعيه " وهو في جانب آخر يقوض عملية الاختيار والتصويت بجملتها التي تحتم فوز الحاصل علي أعلي الأصوات، ويسمح لغير المؤسسة الكنسية بالتدخل في الاختيار وتوجيه النتيجة . وحتي نخرج من مأزق التعديل المعيب الذي يروج له أعود الي المطالبة بأن تجري الانتخابات وفق قانون يصدر عن مجلس الشعب، منبني علي مشاريع قوانين ومقترحات تقدمها الكنيسة والتجمعات القبطية ذات الصلة، باعتبار أن الأقباط هم بالأساس مصريون كاملو المواطنة، واختيار البابا وإن كان عملاً كنسياً بحتاً لكنه يحتاج إلي ضوابط قانونية تحفظ حق ملايين الأقباط المصريين في الاطمئنان علي شفافية الاختيار وقانونيته. لذلك يتوجب علي مجلس الشعب عقب تشكيله أن يضع الملف القبطي بجملته علي جدول اعماله ومنه شأن انتخاب البابا البطريرك ويدعو الي عقد جلسات استماع يشارك فيها المتخصصون من رجال القانون الاقباط ومن النخبة المثقفة القبطية المهتمة بالشأن القبطي، كواحدة من صور الديمقراطية التي نسعي لترسيخها في المجتمع والأقباط جزء منه والائتناس بتجارب الكنائس التقليدية الشقيقة في هذا، واعادة قراءة الاعتراضات التي اثيرت في المرتين اللتين طبقت فيهما لائحة 57 بعد وفاة البابا يوثاب الثاني والبابا كيرلس السادس، خاصة بيانات الانبا غريغوريوس والمؤرخة ايريس المصري والدكتور جورج حبيب بباوي العالم اللاهوتي المعروف، ومجلة مدارس الأحد " 1949 1970 " ورأي المفكر المصري الأب متي المسكين . فضلاً عما كتب لاحقاً وخاصة الثلاثة كتب التي صدرت من أحد رهبان دير انبا مقار سنة 2002 وهي : السلطان الروحي في الكنيسة، والتدبير الإلهي في تأسيس الكنيسة، والتدبير الإلهي في بنيان الكنيسة، وأوراق التيار العلماني ومشروع قانون انتخاب البابا البطريرك الموثق والذي قدموه لقداسة البابا ولمجمع الاساقفة والمجلس الملي عام 2008، محكومين في هذا بقواعد راسخة تؤكد التلاحم بين القاعدة الشعبية والآباء والتي وقفت وراء الحفاظ علي الكنيسة عبر عشرين قرناً مضت .