كل عام وأنتم بخير.. اليوم عيد الأضحي المبارك الذي يحل علينا ضيفا مرة في العام بعد يوم الوقوف بعرفة الركن الأكبر في مناسك الحج، كم تهفو المشاعر الي المناسك حين يأتي موعدها، ورغم المشقة المعتادة فان الانسان يتمني أن يستمر عهده بمناسك الحج ما بقي له من عمر لما تحمله تلك المناسك، لمن يفهمها، من شحنة روحية هائلة تقربه من الله سبحانه وتعالي وتبعث في نفسه التقوي . يعمل الحج علي توحيد المسلمين باجتماعهم في مكان واحد وزمان واحد، يلبون تلبية واحدة ويلبسون لباساً واحداً، يجتهدون علي تزكية نفوسهم، بتركهم شهوات الدنيا وملذاتها، فهم يتوجهون إلي الله بصالح أعمالهم ودعائهم أن يكفِّر عنهم سيئاتهم، لعلهم يعودون كيوم ولدتهم أمهاتهم بغير ذنوب ولا معاصي فتصفو نفوسهم ويتجدد إيمانهم ويزداد. كثير من الناس يذهبون الي الحج ويعودون كما ذهبوا والله أعلم بهم، لأنهم يفتقدون القدرة علي التامل، وينصرفون الي التركيز علي أمور شكلية مثل كيفية الدعاء وحمل كتب الأدعية المختارة أو المأثورة وفتح تلك المذكرات عند الطواف او السعي أو اثناء الوقوف بعرفة، ولست أدري هل يحتاج التقرب الي الله لقراءه في كتب الأدعية ؟؟ في اعتقادي أن كل ما يصرف الذهن عن التأمل أثناء المناسك يقلل من احساس الانسان بعظمة الموقف وتمثل قيمة أداء الفريضة كما أداها سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع وهي حجته الوحيدة وأداها معه نحو مائة وأربعين ألفاً من المسلمين كانوا شهودا علي ذلك الحدث العظيم الذي لقن فيه الرسول الكريم هذا الحشد من المسلمين الأوائل مبادئ دينهم وأعاد تأكيد دستور الاسلام العظيم القائم علي المساواة بين البشر، ونبذ التعصب بكل صوره وأشكاله، والتمسك بكل ما يخطر علي البال من القيم النبيلة . قبل ثلاث وعشرين سنة من ذلك الوقت كان الاسلام فردا واحدا هو النبي صلي الله عليه وسلم، يعرض الإسلام علي الناس فيردونه، ويدعوهم فيكذبونه، في ذلك الحين كان المؤمن لا يأمن علي نفسه أن يصلي في بيت الله الحرام . اليوم في حجة الوداع ها هو النبي الذي كان فردا واحدا يحمل الدعوة المباركة يحيطه تنفيذا لوعد الله له بالفتح المبين ما يزيد علي مائة وأربعين ألفًا يلتفون حول الصادق الأمين صلي الله عليه وسلم في مشهدٍ يوحي بأكمل معاني النصر ويجسد صورة رائعة، تحكي بأن الزمن وإن طال، فإن الغلبة لأولياء الله وجنده، سبحان الله، الآن الملايين تقف نفس الموقف ولولا المكان المحدود والامكانيات اللوجستية لشهد هذا اليوم في هذه الأيام عشرات الملايين من المسلمين . من المفيد أن نتذكر اللقاء الجامع بين النبي الكريم وبين المسلمين الأوائل وبعض ما جاء في هذه الخطبة الجامعة: أشار سيدنا محمد - صلي الله عليه وسلم - إلي الكثير من القضايا المهمة كحرمة دماء المسلمين وأموالهم إلا بحقها، وهذا يؤكد مبدأ راسخاً في الإسلام وهو حرمة اعتداء المسلم علي أخيه المسلم، سواء بالقتل أو الطعن أو الشتم، أو الإهانة وغيرها من الأمور المخلة بآداب الإسلام وتعاليمه. حرمة الربا وخطورة التعامل به، وأن اللعن يصيب كلاً من آكله وشاهده وكاتبه ومن له علاقة به من قريب أو بعيد، نظراً لآثاره السلبية علي الفرد والمجتمع. إبطال ما كان من عادات قبيحة عند العرب في الجاهلية ومنها الثأر. الدعوة إلي احترام النساء وإعطائهن حقوقهن، ودعوتهن للقيام بما عليهن من واجبات تجاه أزواجهن. دعوة المسلمين إلي أن يتمسكوا في كل زمان ومكان بكتاب الله وسنته نبيه محمد. التأكيد علي أخوة المسلمين ووحدتهم. حِرص الإسلام علي التيسير علي الناس فكان الرسول محمد -صلي الله عليه وسلم- لا يسال علي أمر إلا قال : افعل ولا حرج. بعد غروب شمس يوم عرفة نزل الرسول صلي الله عليه وسلم والمسلمون إلي مزدلفة وصلي المغرب والعشاء فيها جمع تأخير، ثم نزل صلي الله عليه وسلم إلي مني وأتم مناسك الحج من رمي الجمار والنحر والحلق وطواف الإفاضة . حال المسلمين اليوم بالغ السوء، فهم أبعد ما يكون عن نهج السلف الصالح رغم الدعاوي الزائفة بالانتساب اليه، عرف السلف الصالح التمييز بين العادة وبين العبادة، ولم يخلطوا بين النصوص المقدسة وتفسيراتها، ولم يضيفوا أي مراسم أوطقوسا كهنوتية علي الاسلام بل تركوا العقل الانساني طليقا في الاجتهاد، ولم يفعلوا مثل بعض الخلف الذين حرموا الفكر والاجتهاد.