أسئلة عديدة كان لابد من طرحها علي المترجم الفرنسي ريشار جاكمون، الذي عاش بمصر ما يقرب من 15 عاما، ويدرّس الأدب العربي الحديث حاليا بجامعة "آكس آن بروفنس" في جنوبفرنسا، فجاكمون جاء بعد أيام من اتهامات وجهت له مؤخرا وتتعلق بكونه يحمل أجندة سياسية، وجاء جاكمون ليلقي محاضرة بالجامعة الأمريكية حول سياسات الترجمة في العالم العربي، كان لابد من طرح تساؤلات حول النظر إليه باعتباره مستشرقًا، علاقته بمصر، رؤيته للحملة الفرنسية عليها، رؤيته لما يحدث في فرنسا الآن، نظرته لتغيرات الواقع الثقافي المصري وغيرها من الأسئلة. سألت جاكمون في البداية عن السبب الذي يجعل البعض ينظر للمستشرق نفس النظرة القديمة المستريبة، فقال: الاستشراق موضوع يصعب تقديمه بطريقة مقنعة ومفيدة في حديث صحفي، لكن بشكل عام، كثيرا ما ينظر للناس التي تعيش بين ثقافتين علي أنهم خونة، وأي شخص فرنسي يدافع في ظل ظرف متأزم عن الأجنبي، يعرّض نفسه للاتهام بأنه ضمن الطابور الخامس أو أنه "متوالس" مع قوة أجنبية أو جماعات ضغط أجنبية، والواحد حينما يتنقل بين الهنا والهناك، عليه أن يقبل أنه سيكون دائما عرضة للاتهام من جانب الناس التي تلعب علي الوتر الشعبوي، ومنذ 25 سنة وأنا عايش في هذه الورطة وسأظل عايش معاها. الوطن الثاني حينما قدمته الدكتورة سامية محرز للجمهور الذي جاء ليستمع لمحاضرته حول "سياسات الترجمة في الوطن العربي" بالجامعة الأمريكية منذ أيام قليلة، قدمته علي أنه "مصري بالتبني"، بينما هو - ريشار- يفضّل مقولة "الوطن الثاني"، سألته عن سبب هذه العلاقة القوية بمصر، فأكد أن الصدفة وحدها هي التي أتت به إلي هنا، ليدرس اللغة العربية، حينها أحب المكان وأحب الناس و"الجو كله" فوجد نفسه وقد قضي ثلث عمره في مصر أي 16 سنة من أصل خمسين. لكن ما الذي جذبه تحديدا في الثقافة المصرية؟، يقول جاكمون: الثقافة كلمة عامة جدا، تشتمل علي الأكل والسلوكيات وغيرها، بخلاف الإنتاج الثقافي من أدب وسينما ومزيكا وغيرها، وهي تركيبة "تتحب" كلها علي بعضها، ويتابع: لم أكن مولعا ذلك الولع العادي بمصر، أي الولع بمصر القديمة، كما يحدث مع معظم الأجانب الذين تجذبهم الحضارة الفرعونية بمعتقداتها وخيالها، بينما أنا مولع بمصر الحديثة. الانتقادات أخبرته عن حركة تصاعد الكتابات المصرية التي تنتقد الشعب المصري ومصر عامة، فوجدته يري أن الانتقاد يتم النظر إليه والتعامل معه وفق المكان الذي يتحدث منه المنتقدون، يوضح: أنا ابني عنده 17 عاما، وهو من ذلك النوع الشكّاء، الذي يحب النقد والشكوي، حينما يكون في فرنسا يدافع عن مصر خاصة عندما يسمع تلك التعليقات العنصرية، وعندما يكون في مصر يقوم بالدفاع عن فرنسا عندما يسمع كلاما "وحش" عنها، وأنا حينما أكون في فرنسا أقوم بالدفاع عن المصريين، ودول العالم الثالث والإسلام، وعندما أكون هنا انتقد فرنسا كلها، يمكن لأنني حينما أكون في بلدي يصبح لي حرية انتقادها، لكن حينما آتي إلي هنا صرت "اتحسب" علي فرنسا، صرت ضيفا، لا يستطيع أن يتحدث عن بلده بنفس مقدار الحرية. لكن هناك من رأي في لغة محاضرتك بالجامعة الأمريكية نبرة عنصرية؟ سألته، فأردف: محاضرة الجامعة الأمريكية، محاضرة علمية، وعندما اتحدث في جو علمي يفترض أن آخذ حرية أوسع في الكلام، بخلاف الحديث الذي يتم في التليفزيون أو الصحف أو حتي مع "سواق تاكسي معرفوش"، وماذا سأفعل لشخص قرر أن يسمع الحديث العلمي وفق أفكاره ومعتقداته وحساسياته؟! التطهير منذ عامين تقريبا أقام المجلس الأعلي للثقافة بالتعاون مع الجمعية المصرية للدراسات التاريخية ندوة حول الحملة الفرنسية، لاقت هجوما من بعض الأصوات التي رأت فيها شكلا من أشكال الاحتفال بهذا الاحتلال الفرنسي، سألت جاكمون عن موقفه، فرد بلهجة شديدة السخرية : المناقشة التي تتحدثين عنها هذه حدثت أيضا منذ أكثر من عشر سنوات، حينما قررت الحكومتان عمل "منظر" والاحتفال بمرور 200 سنة علي الحملة، وحينما لاقي ذلك هجوما شديدا، غيرت الدولتان مسمي الاحتفالية إلي "مصر وفرنسا علي مشارف الألفية الثالثة"، حاجة تضحّك، حينها كنت أجلس واتفرج، وأحيانا أحلل علاقات الشعوب والبلدان، علاقات التبعية والاستعمار، وأقول أنه بدلا من الاحتفال، تعالوا ننظر علي تاريخنا المشترك، ونسعي للتطهير، تطهير ذاكرتنا المشتركة، أن يري كل طرف ما له وما عليه، أن نتجاوز ما حدث ونسعي لإقامة علاقات عمل أكثر استواء وتوازن، أما الانتقادات التي يوجهها البعض لمثل هذه الندوات فطبيعية، طالما أن السياق في البلدين غير متكافيء. الرأسمالية المنحرفة علي ذكر فرنسا، هناك من ترجم ما يحدث فيها من حركة احتجاج واعتصام واسعة النطاق، علي أنها نوع من أنواع صراع الطبقات، لكن جاكمون يراها من زاوية أخري، يقول: ما يحدث في فرنسا هو ما يحدث في العالم المتقدم، أزمة مالية تقوم علي إثرها الحكومات بإنقاذ البنوك، وعندما تصل هذه البنوك لبر الأمان تسترجع أرباحها مرة أخري وكأن شيئا لم يحدث، بينما تنتقل الأزمة المالية للدول، فتقوم بإتباع سياسات تقشف حتي لا تقف في "بوز" مدفع المؤسسات المالية الدولية، الآن كل أوروبا مهددة بالديون، ونحن من يدفع أخطاء النظام الرأسمالي الذي انحرف فأصبح يضع النظام المالي فوق أي اعتبار آخر، الآن الرأسمالية ما هي إلا خصخصة للأرباح وتأميم للخسائر. الضغوط الداخلية والخارجية بعدما انتهي جاكمون من أطروحته للدكتوراه باللغة الفرنسية، قام المترجم بشير السباعي بترجمتها بعدها بعشر سنوات أي عام 2004 في كتاب صدر بعنوان "بين كتبة وكتّاب.. الحقل الأدبي في مصر المعاصرة"، وبالطبع تغير الوسط الثقافي المصري تغيرت أحوال الجماعات الأدبية ووضع المثقف، فماذا سيتغير في الكتاب إذا ما فكر جاكمون في تعديله وإعادة نشره؟، يقول: الكتاب كان محاولة لفهم الضغوط المفروضة علي الإبداع من خارج دائرته، ضغوط قادمة من السلطة بكافة أشكالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وضغوط أخري قادمة من الخارج تتعامل مع الأدب العربي علي أنه تابع، في فترة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات كان الضغط قادمًا من السلطات السياسية الداخلية، ولهذا جاء عنوان الكتاب ليفرّق بين الكاتب الحر والكاتب الآخر المرتبط بالسلطة. الآن الضغوط القادمة من السوق والمتعلقة بالاقتصاد أقوي وكذلك تلك القادمة من الخارج، حيث يفرض الخارج علي الكتّاب وصيته، ويربطهم بعلاقة تبعية معه، قادمة بالأساس من الإمكانيات المادية والموارد التي يمد الكتّاب بها، ونتيجة ذلك تجد أن ظاهرة الجماعات الأدبية تقل، ويمكن أن تكون في طريقها للانقراض، فالجماعة انبثقت من فكرة أن الناس تريد أن "تتلم" لتواجه السلطات التي تفرض عليها وصايا سياسية أو شكل أدبي معين، الآن قل هذا الضغط، وعلت نبرة الفردانية، فالأديب الشاب أصبح يكافح متفردا للبحث في السوق عن ناشر أو مترجم أو مانح أو سفرية، هذا مجهود فردي استغني عن الجماعة الأدبية، واستغني حتي عن فكرة الجيل الأدبي، لأنه لم يعد هناك الكبار أو الرقباء الذين يحب مواجهتهم. الآن يعمل جاكمون بالاشتراك مع عدد من الباحثين علي كتاب جماعي صدر الجزئين الأولين منه، وهو "تاريخ الأدب العربي الحديث"، يقول جاكمون أنه كتاب ضخم، يشمل كل التيارات والتطورات والأنواع الأدبية في مختلف البلدان العربية عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.