مع كامل الاحترام لضوابط اللجنة العليا للانتخابات، ومع كل التقدير للقواعد المهنية الواجب الالتزام بها في أي تغطية موضوعية، ومع كل الالتزام بالقانون، إلا أن حديث الحياد الذي يلوكه الكثيرون الآن بشأن مجريات الانتخابات المصرية.. يحتاج إلي مراجعة سريعة.. قبل أن تخدعنا المصطلحات وتلهينا الشعارات.. ويكون هذا الإلهاء مبررًا لخطايا بدأت تلوح بالفعل بوادرها في التعامل الصحفي مع مسار التفاعل الانتخابي. نحن في ساعة جادة.. وفترة دقيقة.. لا مجال فيها للعبث من أي نوع. الانتخابات إذا كانت تنافسًا حرًا، ونزيها، وقانونيا، بين المرشحين، المنتمين للأحزاب، فإنها بدورها مناسبة واضحة للاختيار بين مشروعين معروضين علي الرأي العام لمستقبل مصر: مشروع الدولة المدنية الذي تؤيده كل الأحزاب القانونية حتي لو كانت متنافسة، ومشروع الدولة الدينية.. التي تريد أن تهدم الحياة الحزبية حتي لو تحالف المرشحون المعبرون عنها مع بعض أحزاب المعارضة. هذه لحظة تبين فيها المواقف.. وينكشف فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود.. وتصنع المواقف المحايدة في التوقيت الحالي هو نوع من التدليس.. ولا أريد أن أقول إنه خيانة للمصلحة الوطنية.. لأنني لا أفضل لغة التخوين.. وهي لغة لا ينبغي أن تستخدم أو تكون موجودة.. فهي من مظاهر (التكفير السياسي) الذي لا يقل خطورة عن (التكفير الديني). الحياد في هذه الانتخابات مستحق بين الأحزاب المتنافسة.. باعتبارها تحترم القانون، ونابعة منه، وتنضوي تحت لوائه ووفق قواعده.. المساواة حق لكل الكيانات الحاصلة علي ترخيص من الدولة بالعمل السياسي وفق الدستور.. والتي تقر بأنه لا يجوز استخدام الشعارات الدينية والعرقية والطائفية في أي تنافس سياسي.. وهي ذاتها التي تقبل أن تخضع أموالها وتمويلها للإعلان والشفافية والرقابة.. دون ذلك فإن الجميع مطالب بأن يعلن أين يقف وما موقفه وبصراحة لا تحتمل اللبس.. فبعض اللحظات، تكون مقياسًا واجبًا للتصرفات التي لا تقبل الهزر أو العبث أو الالتفاف. وفق هذا يمكنني أن أفهم ضوابط الموضوعية والدعاية المتساوية بين المرشحين.. وحسب هذا لا بد أن تمنح المنابر الإعلامية المساحات والتوقيتات المتطلبة لكل حزب كي يعبر عن نفسه.. أما الآخرون أعداء الدولة وخصومها، فإن التعبير عنهم هو بالتأكيد محاربة للدولة ومساندة لا بد أن تخضع للمحاسبة التاريخية من مرتكبيها إذا استمرءوها، واستمروا فيها، وواصلوا ممارستها تحت الشعارات الخائبة. في الكتب نظريات.. وفي النظريات قواعد.. وفي السياسة مصالح.. والمصالح نوعان: عامة وخاصة.. وغالبًا ما يتم تكسية هذه المصالح الخاصة بمبررات شعارية أو أمنيات جذابة.. تقود مستقبل البلدان حينا إلي الجحيم. لقد دافع أصحاب الشعارات عن المشروع الديمقراطي الأمريكي حتي قضي علي العراق ودمره.. كما أنهم دافعوا عن حركة حماس حتي قسمت الأرض الفلسطينية وحوَّلت غزة إلي سجن كبير.. والرومانسيون المزيفون هم الذين يريدون من الدول العربية أن تتقبل التعامل مع المشروع الفارسي الساعي إلي الهيمنة.. والأدعياء متصنعو الموضوعية هم أنفسهم الذين يفتحون أبواب الصحافة علي مصاريعها الآن من أجل الدعاية لصالح جماعة الإخوان التي تتبني مشروع الدولة الدينية. لا حياء في العلم.. ولا حياد في مستقبل البلد.. ولا يستحق أعداء الديمقراطية أن يستفيدوا منها (الديمقراطية).. ولا يجوز أن يتمتع بحرية الصحافة من يصنفونها دينيًا ويكفرون بعض أقلامها.. فالصحافة كمؤسسة وسلطة تقوم علي أسس دستورية.. وهؤلاء الذين يريدون أن تتحول مصر إلي ولاية في خلافة مستحيلة يكون فيها مواطنو بلدنا رعايا لباكستاني أو ماليزي أو إندونيسي.. لا ينبغي أبدًا أن يستفيدوا من المميزات الدستورية. هذه لحظة الحقيقة.. والمواقف تكشف عن الانحيازات.. والالتفافات ليس لها سوي عنوان واحد.. هو العبث والقفز فيما بين الأحبال وعليها.. وليس هذا وقت البهلوانات والمتكسبين.. والموضوعية المزعومة في هذه اللحظة التاريخية تكون نوعًا من إعدام الذات.. وإطفاء لنور السياسة.. وهدرًا للحراك.. وتهديدًا للاستقرار. إن من حق أي مرشح مستقل أن يتم التعاطي معه باعتباره مرشحًا فردًا صاحب رؤية تخصه.. هو من جانبه قبل ألا ينضم إلي أي حزب.. وقد أعطاه الدستور هذا الحق.. ولا بد أن يحصل عليه بشكل فردي.. لكن المظلة الجماعية المصطنعة التي تعطي لصالح المرشحين المنتمين لجماعة الإخوان المحظورة من قبل الصحف الخاصة وبعض محطات التليفزيون.. خصوصًا القنوات غير المصرية، هي بمثابة طعنة في ظهر ديمقراطية مصر.. وتعدٍ علي الأحزاب.. وتواطؤ مع مشروع الدولة الدينية.. وتدليس علي الناخب.. وتصويت من قبل وسائل الإعلام التي ترتكب هذا الفعل في صندوق الظلام.. وخدمة للفوضي.. وتخديم علي الطائفية. تخطئ الصحف الخاصة حين تتجاهل تلك الحقيقة.. ولا بد أن تدرك أن عين التاريخ تراقبها.. وضمير الوطن يقيم ما تفعله في ذلك التوقيت الحاسم.. مع اقتراب لحظات الاختيار.. وهي عندما تتيح الصفحات من أجل نشر الشائعات والدعايات الإخوانية.. إنما تخالف مصلحة البلد وتقف ضد ما يمثل أهمية لأغلبية المواطنين الكاسحة. أعرف تمامًا أن هذا الموقف سوف يتم الهجوم عليه شخصيًا، وسوف أواجه عشرات من الاتهامات، وسوف يخرج أصحاب الشعارات كي يصدروها في وجه رأيي، ولكن هذا كله ليست له قيمة.. مادمت ألتزم بأمرين.. الأول هو ما أعتقده منفعة هذا البلد.. وما أجده مفيدًا للديمقراطية فيه.. والثاني هو أن موقفي قانوني وينبني علي أسس الحياد الذي يمكن القبول به وفق معايير الدستور. دستور مصر الذي ينص علي حرية التعبير.. ويريد هؤلاء أن ينسفوه.. أو علي الأقل أن يفسروه علي هواهم.. دستور مصر الذي يفترض في كل الصحف أن تدافع عنه وأن تصونه لا أن تساعد علي تخطيه كل يوم من أجل منافع ذاتية تجرف وراءها المصالح الوطنية.. دستور مصر الذي ينص علي أنه لا يجوز استخدام الدعاية الدينية في حين أن مختلف الصحف الخاصة تقوم الآن بتوزيع تلك الدعاية بأساليب متنوعة وبما يخدم مشروع الدولة الدينية التي سيكون فيها نهاية استقرار هذا البلد. www.abkamal.net [email protected]