بقلم : نبيل زكى أمين الشئون السياسية بحزب التجمع كما يحدث في عالم التجارة.. يحاول البعض استغلال التكوين العقلي والنفسي للجمهور لكي يروج بضاعته. والمعروف أن المصريين، بوجه عام، متدينون. إلا أن البعض يحرص علي انتزاع ثقة المواطنين عن طريق الضرب علي وتر حساس هو الدين. وبذلك يضمن هؤلاء التجار الترويج لأنفسهم بوصفهم اصحاب "السلعة" ومحتكريها، وهكذا ينزعون عن منافسيهم وخصومهم الرداء الديني في نفس الوقت الذي يوهمون فيه المواطنين بأن هذا الرداء لا يوجد إلا عندهم ولا يرتديه سواهم، كما لو كانوا قد حصلوا علي تفويض إلهي بأنهم هم الممثلون الحقيقيون للعناية الإلهية وأن من عداهم يقف خارج دائرة الدين. وبهذه الطريقة، يضمن هؤلاء التجار إلغاء مبدأ تكافؤ الفرص في حلبة الصراع السياسي، فهم وحدهم الذين حصلوا علي توكيل من الله سبحانه وتعالي يخولهم الحق في أن يحصلوا علي صوت الناخب، الذي ينبغي في هذه الحالة أن ينحاز الي مناصري الدين ودعاة الهداية والفضيلة، الذين يترفعون عن الدنيويات.. بينما هم غارقون فيها حتي الآذان، لأنهم ينفقون ببذخ بغرض تحقيق هدف علي المدي الطويل إن لم يكن علي المدي القصير هو الاستيلاء علي السلطة. إنهم يصرون علي فرض وصايتهم علي الناس، ويقسمون المواطنين الي "مؤمنين" و "كفَار"، ويوزعون الأحكام، الأخلاقية، ويستخدمون هذه الأساليب في ممارسة أخطر أنواع الارهاب الفكري. والهدف، في نهاية المطاف، هو تخويف الناس من مجرد التفكير في معارضتهم والتصدي لهم، بحيث يبدو الأمر كما لو أن هذه المعارضة لجماعتهم.. هي معارضة للدين. أما اليسار، فإنه يضع برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.. تعكس، من وجهة نظره، مطالب وأماني ومصالح الجماهير. ورغم أن اليسار يدرك، سلفا، أن الدين هو أقرب السبل للوصول الي قلوب المواطنين، إلا أنه لا يلجأ الي هذه الوسيلة لكسب تأييدهم وأصواتهم.. وذلك حفاظا علي قدسية الدين وعدم إقحامه في الصراع السياسي. واليسار يعتبر أنه وريث لكل تراث الحركة الوطنية المصرية، التي رفعت في ثورة 1919 شعار"الدين لله.. والوطن للجميع"، وهو شعار يعتز به اليسار ويتشبث به حتي النهاية. واليسار لا يفرق بين مسلم ومسيحي وأي معتنق لأديان أخري سماوية وغير سماوية، ولا يتخلي عن مبدأ المواطنة، وإنما يسعي الي تفعيله واستصدار القوانين التي تضعه موضع التطبيق، بحيث يكون جميع المواطنين علي قدم المساواة أمام القانون وفي فرص العمل والترقي وتوزيع المسئوليات بصرف النظر عن الدين أو المذهب أو المعتقد أو الجنس أو المركز الاجتماعي. إنها مواقف مبدئية لليسار، وهي البوصلة التي ترشده وتقوده في كل أنشطته وتحركاته السياسية. وبالتالي فإنه لا يستجدي أصوات الناخبين عن طريق الإدعاء بأنه المدافع الأوحد عن التعاليم السماوية، وإنما يدعو الي منافسة حرة وعلنية بين البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي نفس الوقت، فإن اليسار يحاول كسب ثقة المواطنين ليس عن طريق اقناعهم بأنه الأكثر تدينا وقربا الي الله، وإنما بأنه الأكثر إخلاصا لمصالح الجماهير، والأكثر قدرة علي الدفاع عن مصالحهم الحيوية، وخاصة أنه لا يوجد لدينا من يشق الصدور ليعرف من هو الأكثر ايمانا وقربا من الله.. حقا وفعلا. وليس صحيحا رغم كل شيء أن المتاجرين بالدين هم الأكثر قربا من الجماهير والأكثر شعبية... فكلنا نتذكر كيف أن جماعة الاخوان، مثلا، رشحت مائة شخصية في الانتخابات البرلمانية في مطلع عام 1950 ولم ينجح أحد من كل هؤلاء رغم مناخ الحرية الذي ساد في تلك الانتخابات. إذن لماذا ظلت جماعة الإخوان في الساحة حتي الآن؟ السبب الأول: هو صدور قرار إلغاء الاحزاب السياسية في شهر يناير 1953 وعزل كل رموزها عن العمل السياسي، مع استثناء جماعة الإخوان من الحل، بل عين مجلس قيادة ثورة 23 يوليو اثنين من جماعة الاخوان في مناصب وزارية. ولم يقع الصدام بين الثورة وجماعة الاخوان إلا عندما أصرت الجماعة علي فرض وصايتها علي مجلس قيادة الثورة من خلال مراجعة أي قرارات أو قوانين يصدرها المجلس قبل تنفيذها. والسبب الثاني: إن استمرار جماعة الاخوان في الساحة جاء نتيجة أن الحكومات في بلادنا دأبت علي استخدام أساليب العنف ضد الاخوان ردا علي لجوئهم الي العنف. كما أدمنت الحكومات استخدام حملات الاعتقال ضد أعضاء وأنصار الجماعة وتوسعت في هذه الاعتقالات، بدلا من انتهاج طريق الفضح السياسي. وكما هو معلوم، فإن المصريين يتعاطفون مع كل ضحايا حملات العنف والاعتقال الحكومية.. حتي لو كان هؤلاء الضحايا.. مذنبين. أما السبب الثالث، والذي تجلي بوضوح في السنوات الأخيرة، فهو غياب الدولة وانسحابها من الكثير من الخدمات التي كانت تقدمها الي الشعب، مما أتاح الفرصة أمام جماعة الاخوان للسعي لملء هذا الفراغ عن طريق تقديم خدمات شبه مجانية في مجال العلاج الطبي وكفالة اليتيم.. وحتي الدروس الخصوصية. والسبب الرابع: أنه جاء وقت دخلت فيه أجهزة الدولة في نوع من المزايدات مع جماعة الاخوان حول من هو الأكثر تطرفا وتشددا من الناحية الدينية. وكانت الدولة تفترض أنها بهذه الوسيلة تسحب البساط من تحت أقدام الاخوان، ولكن كان العكس هو الصحيح.. فقد أدت هذه المزايدات الي تقوية شوكة التطرف الديني، وخاصة مع وجود مناهج في التعليم وبرامج إعلامية وخطاب ديني تتجه كلها نحو زيادة جرعة التعصب الديني والغلو في كل ما يتعلق بأمور الدين. واليسار لا يملك القدرات المادية التي يتمتع بها تنظيم دولي مثل جماعة الاخوان القادرة علي انفاق الملايين، لذلك لا يوجد لديه ما يقدمه للجماهير سوي برامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكي يكسب ثقة المصريين. وهو قادر علي ذلك في حلبة صراع سياسي حر ومكشوف بعيدا عن الشعارات الدينية واستغلال الدين في السياسة.