ذهبت إلي الدوحة بدعوة لحضور مهرجانها السينمائي، الدوحة هي عاصمة قطر، وقطر معروفة بأنها الدولة التي تبث منها قناة الجزيرة التي أصبحت شبكة تضم خمس قنوات، لكن قطر السينمائية ليست معروفة بعد.. ولكنني متأكدة أنها سوف تصبح معروفة وموصوفة لصناع السينما علي الأقل بعد سنوات قليلة، فها هي «أجهزة الدولة هناك» توجه اهتماما لإيجاد علاقة وثيقة مع الثقافة بشكل عام، ومع السينما بشكل خاص، خاصة بعد اختيار الدوحة عاصمة للثقافة العربية هذا العام من قبل الجامعة العربية. من ثلاثة أيام فقط كان يعقد فيها اجتماع لوزراء الثقافة العرب لبحث الخطة الشاملة التي أعدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون لتحديث الثقافة العربية، وافتتح معرض عنوانه «رحلة في عالم العثمانيين» في متحف المستشرقين التابع لهيئة متاحف قطر ضم عددا كبيراً من الأعمال المهمة التي قدمها فنانون أوروبيون عن الحياة في زمن الامبراطورية العثمانية. أما مهرجان السينما فقد ابتلع الاهتمام الأكبر في الصحافة والاعلام القطري، خاصة مع الأسماء الكبيرة التي قدمت إلي الدوحة مثل عادل إمام الذي كرمته مؤسسة الدوحة للأفلام بمنحه جائزة «انجاز العمر» التي تقدم لأول مرة في المهرجان، في عامه الثاني وتقول حيثياتها إنها - أي انجاز العمر - تأتي إلي ممثل يحمل بجدارة لقب تشارلي شابلن العرب، ويعد علي نطاق واسع واحداً من أبرز الممثلين الموهوبين في منطقة الشرق الأوسط، حيث إن النجاحات التي حققها تجاوزت حدود العالم العربي.. وحيثيات أخري عديدة حول عادل إمام الذي تشاركه حضور المهرجان بدور مهم يسرا كرئيس للجنة التحكيم الدولية التي تضم معها أربعة من العالم بينهم الممثلة الأمريكية الشهيرة سلمي حايك. يسرا وعادل إمام كانا هنا يجسدان العلامة البارزة للنجومية السينمائية العربية لكن هذه العلامة، أو اللوجو، لا يفترض أن تخفي غيرها من علامات أولها الإنتاج السينمائي المصري الذي لا بد أن يتواجد بحجم دور مصر وتاريخها مع صناعة السينما الذي يعود بنا إلي قرن كامل من الزمان.. قرن بحاله أي مائة عام، ومع ذلك تستمر أزمات السينما المصرية في التعقد وكأن الزمن لا يمضي إلي الأمام.. وإنما إلي الخلف. في مهرجان أبوظبي السينمائي منذ أسبوعين عرض لمصر فيلم طويل واحد في المسابقة الخاصة بالفيلم الروائي، وفيلمان في مسابقة أخري للأفلام الجريئة عنوانهما «جلد حي» ويدور في مدابغ الجلود وعمالة الأطفال بها، و«داخل وخارج الغرفة» عن حياة عشماوي ،رجل تنفيذ أحكام الإعدام، وفيلم رابع تحريك بعنوان «صلصال» وحصل «جلد حي» علي حائزة.. أما في مهرجان «الدوحة - ترايبكا» فلا يوجد غير فيلمين مصريين واحد طويل هو «حاوي» للمخرج إبراهيم البطوط الذي يصنع افلاما مستقلة عن أفلام الشركات الكبري لأنهم ببساطة لا يمولون إلا الأفكار المضمونة النجاح كما يرونها من خبرات السوق. ولا يوجد لديهم مساحات أخري لأفكار أخري تحتاج لدعم وتشجيع.. لهذا اتجه البطوط إلي خارج مصر بحثا عن الدعم، فحصل عليه من هولندا ومن الدوحة، ومن شركة مصرية حديثة، أنا لا أذكر أسماء هذه الشركات لأن الهدف ليس الدعاية لها وإنما البحث عن الغياب الشائن للسينما المصرية خاصة التسجيلية والقصيرة «غير المكلفة مثل الروائية» عن دور العرض في مصر، وعن المهرجانات خارج مصر، وهل يكن لهذا الجيل الشاب من خريجي معهد السينما في مصر البحث عن التمويل طوال الوقت من خارج مصر. بالطبع هذه ليست أزمة مصرية فقط، ولكنها أزمة بلاد كثيرة منها لبنان وفلسطين والعراق ولكنهم جميعا لا يمتلكون تاريخ وانجازات السنيما المصرية.. من هذا التاريخ، جاء فيلمان هما «الإرهاب والكباب» و«حسن ومرقص» ليعرضا ضمن تكريم عادل إمام وبدونهما، كانت دور العرض العشرون في الدوحة تفقد أي أثر للسينما المصرية إلا من فيلم «حاوي»، فيلم قصر ثان، بينما تتوالي الأفلام الوثائقية والروائية الطويلة في كل مكان معبرة عن سينمات أخري أجنبية وعربية تتوثب حرارة ومقدرة علي طرح قضايا لبنان وفلسطين والعراق والمغرب وتونس بكثير من البلاغة والجمال الفني الذي يحيلك إلي تأمل أحوال نفسك. في مسابقة الأفلام القصيرة جاء الفيلم المصري الثاني بعنوان «وحيدة» اخراج ليلي سامي وسط مجموعة أفلام من لبنان وحدها، وغيرها من الدول، صحيح أن كثرة المناسبات تقلل من قوة بعضها خاصة إذا كان المهرجانان بينهما ثلاثة أيام فقط ما بين الإمارتين الشقيقتين القريبتين جدا جغرافيا. لكن الأصح أن تتواجد الأفلام أولاً، أي الأفلام الرائعة قبل تواجد المهرجانات، ولهذا فهمت مهرجانات الخليج هذا وأنشأت كلها صناعة دعم سينمائية حتي تضمن أفلاماً في عروضها الأولي، هكذا فعل مهرجان دبي أولاً وتبعه أبوظبي، ثم الدوحة الذي بدأ في العام الماضي بالانطلاق بالاتفاق مع مهرجان آخر كبير أعطاه دعم الاطلاق هو مهرجان ترايبكا السينمائي الأمريكي. بعد الدورة الأولي بدأ الدوحة تطوير نفسه، فأطلق «مؤسسة الدوحة للأفلام» التي تعمل كمؤسسة لدعم كل المبادرات الثقافية التي تخص صناعة السينما كتدريب كوادرها ودعم مشروعاته وتمويل الأفلام والبرامج التليفزيونية، ثم «وهذا هو الأهم» دعم البرامج التعليمية والتثقيفية علي مدار العام، وترجمة هذا قرية اسمها «كتارا». قد تكون اسم الدلع لقطر أو مستوحاة منه، أقيمت وافتتحت هذا العام لأمرين أولهما أن تكون جاهزة لاحتفالات عاصمة الثقافة العربية. أما الأمر الثاني فهو أن تكون المكان الجديد لرحلة المواطن إلي الثقافة، في هذه القرية الرائعة مسرح فاخر وفي خططها دار أوبرا علي غرار أوبرا ميلانو الإيطالية، وفيها مساحات شاسعة، علي الخليج، وأجنحة لكل أنواع الثقافة ما يهمنا منها هنا أنها كانت مقرا لإدارة المهرجان السينمائي، مقرا نحلم به لمهرجاننا العريق في القاهرة، وكانت مقرا للبساط الأحمر الذي سار عليه صناع كل أفلام المسابقة وخارجها، أي الأفلام الاسثتنائية، وكانت مقرا لمسرح كبير في الهواء الطلق عرض علي شاشته فيلم الافتتاح في نفس وقت عرضه علي ضيوف المهرجان في القاعة المذكورة. مسرح الهواء احتشد فيه ثلاثة آلاف مواطن ومواطنة من أولاد البلد يرون مثل النجوم نفس العمل وهو أمر جديد بالنسبة لمهرجانات السينما العربية، فالسينما لا تنتشر بالمقالات وإنما بمشاركة الجمهور العريض في متابعتها واشراكه في «الحدث» ووضعه دائماً في «الصورة». نعم كان جمهور مهرجان الدوحة في دور العرض الست عشرة بالمجمع السينمائي قليلاً خاصة في الصباح، لكن هذا يحدث في كل العواصم العربية، لكن القضية هي كيف نجد الوسائل لإخراج هذا الجمهور من عاداته القديمة، ومن ثقافة لا تزال تفتقد الصلة بالكثير من ملامح الثقافة الحديثة؟ وأعتقد أن خلق المكان والمناخ الملائم هو الخطوة الأولي لإعادة الاشتباك بين الناس والثقافة.. ليس في قطر وحدها وإنما في كل مكان في العالم والأمثلة كثيرة.. وآخرها هذا المثال الذي تقدمه قطر عبر قريتها الثقافية.. وهو ما يعني أن قناة «الجزيرة» والتليفزيون عموما لم يعد الطفل المدلل وحده في الدوحة، وإنما جاءه منافس آخر، هو السينما ومهرجانها ومؤسستها والقرية الثقافية وهذا أمر جيد.