تمثل مي زيادة صفحة مهمة في تاريخ الثقافة المصرية والعربية، ويوم رحيلها في التاسع عشر من أكتوبر سنة 1941، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها، كان النهاية الحزينة والتتويج المأسوي لحياة غير تقليدية. أديبة مبدعة مثقفة سابقة لعصرها، يتوزع انتماؤها بين فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، وتتسع ثقافتها لاستيعاب الموروث والوافد. يقع الكثيرون من أفذاذ العصر في هواها، لكنها لا تعرف إلا حباً نظرياً مخطوطاً علي الورق، قوامه المراسلة، مع الشاعر العبقري جبران خليل جبران. جاءت مي زيادة إلي مصر بعد أن جاوزت العشرين بقليل. الأب لبناني يعمل في التدريس، والأم فلسطينية، والقاهرة هي الحضن والملاذ وفرصة العمل الأفضل والأمان والاستقرار. إدراك أهمية مي لا يتحقق بمعزل عن المرحلة التاريخية التي عاشت فيها، فقد كانت المرأة العربية - في مصر وغيرها - أسيرة الحجاب والعزلة، والحياة أحادية الجنس، والمشاعر العاطفية والرومانسية لا تجد متنفساً إلا في أقل القليل من التجمعات والصالونات الثقافية، وفي إحدي هذه الاستثناءات كانت مي تتألق بحضورها وجاذبيتها. لا تقتصر مكانة مي علي الظهور المتوهج قبل الأوان، فهي مثقفة رفيعة المستوي، وصاحبة أسلوب جديد مبتكر، مليء بالرقة والبساطة والتلقائية، ومراودة عالم مختلف عن الشائع المستقر في الثقافة التقليدية الآسفة. امرأة رائدة، وكان لزاماً أن تدفع من أعصابها ثمناً فادحاً لتفردها. سنواتها الأخيرة أقرب إلي الكابوس، وأيامها قرب النهاية أشبه بالجحيم، أما الدروس المستفادة في حياتها وموتها فحافلة بالعظات والدلالات. فقدت مي زيادة احبتها تباعاً، الحبيب والأب والأم، أما التجربة الأليمة في مستشفي الأمراض العقلية فكانت ذات أثر لا ينسي. ما أكثر الأحاديث عن المؤامرات والدسائس والتلفيقات، لكن الذي يبقي ولا يندثر هو ذلك العطاء الجميل الذي قدمته صاحبة الوجه البشوش الوديع الهادئ المريح، واستمتع به كل من قرأ لها أو أقرأ عنها. ما أجملها كاتبة وإنسانة وداعية إلي معانقة عصر جديد مختلف.. يرحمها الله.