في القرن الثامن عشر، وفي البلاد الأوروبية خاصة في انجلترا، كانت الجماهير الفقيرة التي لا تمتلك ثمن تذكرة حضور عرض عرائس أو مشاهدة الساحر، تتجه لنوع آخر من التسلية المجانية ألا وهو مشاهدة تنفيذ العقوبات ومنها عقوبة الإعدام.. وتقول السجلات القديمة إن الشعب كله بفئاته المختلفة وبرجاله ونسائه وأطفاله كانوا يصطفون في الشوارع عند سجن (نيوجيت) لمشاهدة عملية شنق المجرمين.. ما بين 30 و80 ألفًا من الناس يبكرون يوم الاثنين لرؤية هذا المنظر الوحشي.. رأيت علامات الاستياء بادية علي وجوه الطلاب حين كنت أصف لهم هذا المشهد البغيض في إطار مادة الحضارة الانجليزية التي عهد إلي بها هذا الفصل الدراسي.. وزاد استياؤهم حين تطرقنا إلي أنواع العقوبات المختلفة التي كانوا يستخدمونها في القرن الثامن عشر.. كانوا يتناقشون حول وحشية الناس الذين يتقبلون رؤية مثل هذه العقوبات غير الإنسانية وكنت أشرح لهم أن الحضارة والرقي وسيادة الروح الإنسانية هي ما جعل عقوبات كثيرة تختفي شيئا فشيئا عند تلك الشعوب.. وأن المجتمعات تترقي عندما تصل شعوبها إلي مرحلة من الإنسانية ورقي المشاعر تجعلهم يرفضون ذلك، كما رفضتموه أنتم أبناء القرن الواحد والعشرين.. بالصدفة المحضة وجدت أن اليوم السابق للمحاضرة كان اليوم العالمي لمناهضة عقوبة الإعدام وهو 11 أكتوبر.. كيف لم أفطن إلي هذا وأعلق عليه في إطار مناقشتنا الحضارية؟ ولكن آخرين أرسلوا لي توصيات باستطلاع التغيير في الرأي العام في مصر إزاء الحد من تطبيق عقوبة الإعدام في إطار حلقة نقاشية في ذكري اليوم العالمي لمناهضة عقوبة الإعدام عقدتها (مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان).. وفي الرسالة الإلكترونية التي وصلتني وجدت أن استياء الطلاب ليس إلا جزءًا من الرأي العام تبعا لما جاء في استطلاع الرأي.. تقول الرسالة: (هناك مؤشرات كثيرة تنم عن أن المجتمع المصري في الوقت الراهن مؤهل أكثر من أي وقت مضي لمناقشة جدوي تطبيق عقوبة الإعدام، كما أن فصيلاً كبيرًا من المجتمع مؤهلون للانضمام لطابور المنادين بضرورة الالتزام بالحد الأدني من المعايير عند تطبيق العقوبة واحترام أحكام العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في هذا الشأن، وربما يكون تزايد حالات الحكم بالإعدام في الأعوام الثلاثة الأخيرة هو الدافع الرئيسي وراء التغيير النسبي في قناعات الرأي العام).. ويبدو أن بعض المشاركين رأوا أن هناك ضرورة تخفيف عقوبة الإعدام إلي السجن المؤبد في بعض الحالات.. ورأي آخرون أن تطوير البحث الجنائي سيؤدي إلي دقة جمع المعلومات بما يقلل إمكانية الخطأ في الاستدلال الذي يؤدي إلي عقوبة الإعدام.. ومن توصيات الحلقة النقاشية: حصر عقوبة الإعدام علي أربعة أنواع من الجرائم.. وهو ليس إلغاء كاملا لها ولكنه - علي ما أعتقد خطوة في الطريق الحضاري الصحيح - وأيضا اعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي العام (للتعرف علي مدي التغيير في قناعات ووجهات نظر المواطنين المتعلقة بعقوبة الإعدام، ومن ثم استخدام نتائج هذه الدراسات والاستطلاعات في التدخل لدي صناع القرار).. سعدت جدا جدا بهذا التطور الذي قد نشهد له تفعيلا علي أرض الواقع قريبا.. وأسعدني أكثر وأكثر استياء الطلاب الذي يعد تطورا حقيقيا في الرؤية المستقبلية لشباب المستقبل.