أن تشعر بغربة داخل بلدك فهذا أمر يحدث لمعظم المثقفين، لكن أن تشعر بغربة داخل حزبك الذي اخترت أن تنتمي إليه منذ 27 عاماً مضت اعتقاداً منك أنك تحب الحرية وتحب أن تعيش بين الأحرار تعشق الديمقراطية وتأمل في العيش مع دعاة الديمقراطية والقائلين بها. أن تكون قائلاً بحق الاختلاف وتعتبره مساوياً للحق في الوجود، فتقرر علي الفور أنك لابد أن تنضم إلي عشاق الليبرالية المصرية لتجد نفسك بين من يشاركونك نفس القيم فأنا أعتبر التطابق.. فناء.. موتاً.. تلاشيا.. ذوبانا. عدماً. كما أعتبر المغايرة.. كوناً فسيحاً. وجوداً . حياة. ولقد كان لأبي وجدي رحمهما الله وأمي أمد الله في عمرها ومتعها بالصحة أن عودوني الحرية وعلموني الحرية وساعدوني علي العيش بحرية والقول بحرية والبوح بحرية والاختلاف بحرية فلم يمارس علي أبي أي نوع من السلطة ولم يشعرني يوماً أنه صاحب القرار في مصيري أو المصادرة علي اختياراتي كما لم تتدخل أمي يوماً في حياتي إلا بالرأي فقط وليس القرار. أما جدي فكان كلما حاولت أن أقيد نفسي بقيد بعض التقاليد الزائفة فك قيودي علي الفور وعلمني أنها تقاليد زائفة ما أنزل الله بها من سلطان. كما أنه كان معنياً بتحطيم التابوهات والتقاليد المحافظة في حياتنا. كما كان يحكي لي قصصاً عن حياته. وعن إصراره علي أن يغرد خارج السرب وعشقه للتعبير عن رأيه وولعه لممارسة حريته. كان يقص علي قصصاً مفادها أنه لم يحاول مرة إلا أن يقول ما يراه مهما كلفه الأمر ومهما كان في حضرة رئيس أو عظيم. كما كان عاشقاً لخدمة الناس وخدم قريته التي عاش عمره يطور فيها. وكأنها وطنه الكبير حتي حصل علي أعلي وسام (وسام الجمهورية من الرئيس السادات من الطبقة الأولي في العمل الاجتماعي ) رغم وفديته وهو ما يحسب للرئيس. علمني جدي أن أهم شيء أن يحيا الإنسان في وجوده الطبيعي وليس وجوده المزيف. يقول ما يراه ويعبر عما يشعر به ويعفو عن الجاهلين ويتجاوز السطحيين ويفهم مبررات وسلوكيات الآخرين وأفعالهم كان دائماً يقول لي الناس لا تفهم غير مصالحها ولا تنطلق من غير مصالحها ولا تسمع إلا لما يشغلها ويؤلمها. لكنني هذه الأيام أشعر بوحشة كبيرة فقد فقدت الجد وفقدت الأب وهم كانوا لي أعز الأصدقاء والملاذ من اليأس وحالات الضجر من الواقع الذي نحياه في مصرنا وفي حزبنا وفي عملنا وفي تعاملاتنا مع الآخرين. صحيح أن زوجتي ملأت فراغاً كبيراً وأمي ما زالت مهتمة تقرأ ما أكتبه وتنفعل معي، وأصدقائي وإخوتي أيضاً، إلا أن تجربتي الأخيرة كوفدي في الاختلاف مع رئيس الوفد حول علمانية الوفد ورسائله للإخوان عبر جريدة المصري اليوم وعبر خطابه الأول داخل أروقة حزب الوفد جعلتني أشعر بفقد الأمل الشديد في إصلاح هذا البلد، صحيح أن الرجل لم يغضب مني. فأنا لم أقل ما يغضبه إلا أن بعض الوفديين صاروا علة لا تطاق صاروا ملكيين أكثر من الملك. صاروا وكلاء عن رئيس الوفد صاروا قمعيين أكثر مما ينبغي تخلو عن معان كثيرة ومبادئ عظيمة لطالما تربينا عليها في مدرسة الوفد مثل حق الاختلاف وحق البوح وديمقراطية الحوار لدرجة جعلتني أشعر أنني غريب في بيتي الذي امتلأ بالغرباء الذين لا يعرفون شيئاً عن تقاليد الوفد ومبادئه فكلما قابلني لا يعرفون شيئاً عن تقاليد الوفد ومبادئه فكلما قابلني أحد قال لي (يا راجل تخسر الدكتور البدوي عشان العلمانية). (يا راجل زعلت رئيس الوفد منك). (إزاي تكتب في روزاليوسف). ( كنت قلت له بينك وبينه). (أنا علماني بس كنت هرد عليك برضه). (أنت بتحارب طواحين الهواء). ( ياعم هو حد عارف علمانية ولا غيره). ( دي صحيفة الوفد رفضت نشر صورتك وأنت بتخطب في بلبيس إلي جوار الدكتور السقا في مؤتمر الوفد). ( لغوا من كلمتك إنك سكرتير عام مساعد الوفد بالشرقية وكتبوا عادل عصمت عضو الهيئة العليا). والأستاذ (دموع أبو دمعة) بيقول عليك: الواد ده كان مفصول أيام نعمان ولم يستخرج له قرار بالعودة أصلاً يعني يعتبر مفصول من الوفد. ( مشي حالك. إذا كان المستشار مصطفي الطويل الرئيس الشرفي للوفد اضطر يقول الوفد مش علماني ده مدني ونسي كلام النحاس لنهرو). (يا راجل الراجل كان بيحبك وبيحترمك). ورغم أنني لا ألتفت لمثل هذه الآراء ولا أقف كثيراً عند أصحابها، إلا أنها تصيبني بنوع من (القرف) وبنوع من ( فقدان الأمل في هذا الشعب الذي يخلق طغاته) الذي ينظر للمختلف علي أنه شاذ ومنبوذ، وأن علي الجميع أن يقول آمين وأن علينا جميعاً أن نفني في شخص الرئيس وقد يكون هذا مألوفاً في أماكن أخري. لكن المحزن أن يكون أعرق حزب ليبرالي مصري، فهل سوف تكون في مصر ديمقراطية بلا ديمقراطيين وهل ستكون هناك حرية بلا أحرار؟ وهل ستتغير مصر إلي الأفضل وهي تسير وفقاً لمبدأ (لا تختلف)؟ انسي حق الاختلاف.. قول آمين.. اتلغي في الآخرين. كاتب ومحلل سياسي