لأن لا جديد في أحوال السياسة، ولأن شكاوي الناس من ارتفاع الأسعار وتضخم "غول" الغلاء لم يقابلها إلا مزيد من تصريحات المسئولين وظهورهم علي كل القنوات لتبرير ما لا يمكن تبريره، فضلت أن أكتب في موضوع مُضحك، فلم أجد إلا شر البلية. للعبد لله صديق مدمن علي قراءة الصحف، ورغم انشغاله إلا أنه يخصص يومياً ساعات من وقته كي "يفلي" الصحف، ولا يترك فيها سطراً إلا وقرأه ولا إعلاناً إلا وتفحصه. هاتفني صديقي المحاسب القانوني مدمن الصحف شرين نور الدين وضحكته تسبق سلامه فبادرت مبتهجاً شاكراً مهللاً سائلاً عن سبب إقباله علي الحياة بهذه الصورة وضحكته المدوية في زمن عز فيه الضحك، فأبي إلا أن أشاركه "القهقهة" أو "المرمغة" من تأثير الضحك وطلب مني الاطلاع علي الصفحة الخامسة من صحيفة الأخبار وقراءة إعلان احتل نصفها الأسفل بالكامل. اعتقدت في البداية أن نوعاً جديداً من البطاطس التي تؤذي المعدة قد نزل الي الأسواق أو أن مشروباً غازياً تبشرنا الشركة المنتجة له بطرحه في الأسواق، أو أن مصر غيرت وبدلت الجمبري الذي اختارته من قبل وصارت تفضل الطماطم التي جننت الناس. وكلما سألت صديقي نور الدين عن السلعة التي يروج لها الإعلان زاد ضحكه دون أن يجيب الي درجة أفقدته القدرة علي الكلام، فأنهيت المكالمة وبدأت رحلة البحث عن عدد الأخبار الصادرة في السابع من الشهر الجاري وعثرت عليه وهالني ما رأيت وأضحكني ما قرأت وأدركت بالفعل أن شكل ومضمون الإعلان المقصود يفوق في تأثيره أي نكتة أو "زغزغة". باختصار وجدت في الإعلان المدفوع الأجر علي اليمين صورة وزير التجارة والصناعة والقائم بأعمال وزير الاستثمار المهندس رشيد محمد رشيد وعلي اليسار صورة أخري لرئيس هيئة التنمية الصناعية المهندس عمر عسل (هكذا كتب اسمه تحت الصورة علي رغم أن المتعاملين معه يعرفونه باسم عمرو عسل) عند هذا الحد الأمر طبيعي جداً فما أكثر الإعلانات التي تتحدث عن إنجازات الوزارات والهيئات الحكومية. والمعروف سببها "التلميعي" لكن الكلام الوارد في الإعلان لم يكن طبيعياً، بين الصورتين جاءت العبارات مكتوبة كالتالي: "هيئة التنمية الصناعية ركيزة أساسية لتطوير ودعم الصناعة الوطنية" فسألت نفسي: طب وإيه يعني؟ وشكراً علي المعلومة، وهل يحتاج الشعب الي تنويره وإسعاده وإبلاغه أن الهيئة ركيزة!! وفي السطر التالي عنوان يقول: "إنشاء 1291 مصنعاً كبيراً باستثمارات 73.7 مليار جنيه وفرت 258 ألف فرصة عمل" وبمعلومات العبد لله البسيطة تذكرت أن تلك الهيئة لا تنشئ مصانع ولا تجذب استثمارات وكل مهمتها الموافقة فقط، أعيدها مرة أخري الموافقة، علي إنشاء المصانع للمستثمرين وليس بناءها أو تشييدها، وعلي ذلك فهي لم تبنِ أي مصنع وإنما وافقت علي تأسيس العدد المذكور في الإعلان، وبالتالي لم توفر فرصا للعمل وإنما المستثمرون أصحاب هذه المصانع هم الذين وفروا. ثم جاء السطر الثالث من العنوان: "تخصيص 17.7 مليون متر لإنشاء 13 منطقة صناعية جديدة وإنفاق 1.6 مليار جنيه لاستكمال 35 منطقة قديمة". فدار السؤال في ذهني: هل تملك الهيئة هذه الأراضي؟ وسألت أصحاب الخبرة المصرية واكتشفت أن الهيئة لا تملك ولا تبيع أراضي ولا "يحزنون" وإنما تحدد فقط المناطق المتاحة التي يمكن للمستثمرين أن يشتروا فيها قطع الأراضي وكل مستثمر وشطارته، وأن ما ورد في الإعلان هو رقم يشمل مساحة الأراضي التي اشتراها المستثمرون. أما السطر الثالث في عناوين الإعلان فجاء فيه: "تيسيرات متنوعة لتبسيط الإجراءات وصلاحيات واسعة لمجالس إدارات المناطق الصناعية"، وهنا انفجرت في الضحك الذي هو كثير في مصر وكله ضحك كالبكاء، فالهيئة تدفع أموالاً مقابل إعلان في صحيفة مصرية لتروج لنفسها وتبشرنا أنها تبسط الإجراءات التي كانت هي أصلاً عقدتها. حاولت الاكتفاء بقراءة العناوين دون أن أجازف بالدخول في متن الإعلان والإطلاع علي نصف صفحة من الكلام التلميعي المعملي الفذ، وتذكرت العادة المصرية في الدعاء الي الله "اللهم اجعله خير" إذا ما ساد الضحك وزاد، كما أن قدراتي لا تتحمل "المجهود" الذي يحتاجه ضحك علي إعلان كهذا. بكل بساطة الإعلان عبارة عن مذكرة أوردت فيها هيئة التنمية الصناعية "إنجازاتها" وتصلح لأن يرفعها رئيس الهيئة الي رئيسه ليبقي عليه في مكانه أو ليرشحه لمنصب أعلي. عدت الي صديقي نور الدين الذي تجبره طبيعة عمله علي التعامل مع الهيئة حيث أبلغني أنها أكثر الجهات التي يري المستثمرون أنها تعيق الاستثمار وحكي لي بعضاً من القصص والحكايات التي تتناقض تماماً مع ما ورد في الإعلان، وانتهت المكالمة بيننا وكلانا يضحك ربما من شدة الرغبة.. في البكاء. وسواء كان اسم رئيس الهيئة عمر كما ورد تحت صورته أو عمرو كما أخبرني معارفه، فإن لا مجال للخطأ في أن لقبه "عسل".