المسافرون المنتظمون في القطارات لا يتحدثون مع من يجلس بجوارهم.. وهي قاعدة يعلمها ويعمل بها معتادو السفر من أمثالي لاستغلال وقت السفر في بعض الهدوء ربما.. أو القراءة.. أو الاسترخاء.. أو النوم.. أو حتي مشاهدة الطريق.. ولكن القاعدة تنكسر أحيانا للضرورة وأحكامها. جاءت لتجلس في المقعد المجاور لمقعدي، وألقت بالتحية فأجبتها، ثم جلست وفي عينيها وعلي وجهها علامات أعرفها جيدا بالخبرة تنم عن الفرحة بأنها قد وجدتني في المقعد المجاور.. فهذه فرصة ذهبية لتتحدث معي لأنها لن تبدأ الحديث لو كان الجالس مكاني رجلا.. لما أدركت الموقف لم يكن أمامي سوي اللجوء إلي حيلتي القديمة المتكررة.. وهي أن أخرج كتابي من حقيبة الكتب وأبدأ في متابعة قراءته فتدرك أنني لن أتحدث.. وقبل أن أخرج الكتاب، رمقتها بنظرة سريعة أخري فوجدتها في منتصف العشرينات تقريبا وينم مظهرها عن مستوي اجتماعي فوق المتوسط. هممت بفتح الحقيبة ولكن نظراتها الحائرة والإحباط الذي أصابها من انتظار أن أحدثها، جعلني أتراجع.. انتظرت فبادرتني بالحديث بسؤال غير متوقع.. (هو أنا ممكن أتكلم مع حضرتك بصراحة؟).. اعتقدت أن خطبا ما قد ألم بي أو تصرفا ما قد قمت به وضايقها سوف يكون موضوع الحديث الصريح الذي ستقوله.. أجبتها أن تتفضل.. وإذا بالتساؤل الصريح يتعلق بها هي شخصيا والمقصود أن أشير عليها بما يجب أن تفعل. قالت إنها قد شعرت بالألفة حين رأتني وقررت أن تسألني عما يشغل بالها.. ثم سألتني باستحياء إن كان لي صديقات.. أجبتها بالطبع.. قالت: لماذا تقولي (طبعا).. أجبت أن الحياة لا تمر بأثقالها بدون أصدقاء، ولا تحلو بعض ساعاتها إلا في صحبتهم.. قالت: ولكن لا تسنح تلك الفرصة لكل الناس.. وأن ليس لكل واحد أصدقاء.. وأنها تبحث عن الصداقة الحقيقية ولا تجد لها صديقة ولم تجدها أبدا طوال حياتها المدرسية والجامعية.. وأنها تشعر بأن عيبا ما فيها هو سبب ابتعاد البنات عنها.. قالت أنها حاولت كثيرا التقرب من زميلات كانت تظن أنهن قد يتوافقن معها ويصبحن صديقات لها ولم تنجح أبدا.. قالت إنها حاولت تعويض ذلك بتكوين صداقات علي النت ولكنها كلها (فشر) علي حد تعبيرها. استمعت إليها جيدا ولكنني لم أستطع بكل صراحة أن أساعدها.. اقترحت عليها عدة طرق لتكوين صداقات وأنا نفسي غير مقتنعة بأن لتكوين الصداقة طرقا علمية محددة ولكن اقتراحاتي كلها بدت بدائية بجانب ما قصته لي من محاولاتها المستميتة لتكوين صداقة والحفاظ عليها.. أثار حديثها في نفسي أفكارا لم أكن أتأمل فيها كثيرا مثل: هل الصداقة هبة تمنحها الحياة للبعض وتحرم البعض منها؟ ربما يسعي الإنسان للاحتفاظ بصداقاته والحفاظ عليها ولكن هل يسعي لخلقها؟ كيف تتولد الصداقة بين اثنين أو أكثر وتنمو مشاعر المحبة والود والتعاون والقلق والخوف والأخوة والتفاهم بينهم؟ هل يجب أن يندم الإنسان إذا علي أصدقاء لم يحافظ علي علاقته بهم عندما يري هذه الفتاة؟ قاطع سؤالها أفكاري.. هل تقبلين أن تكوني صديقة لي إذا طلبت منك هذا؟ ارتبكت.. قلت لها (طبعا).. كنت أعني (طبعا) الأولي أما هذه فلم أكن أعنيها.. الحمد لله جاءت محطة الوصول.