.. فمنذ قديم الزمان واسم مصر مرتبط بزراعته، كنا نمتلك سلالات نادرة تحقق لنا اكتفاء ذاتيا لنصدر الفائض إلي جيراننا، بعد أن تمتلئ صوامعنا بالغلال. الشعراء تغنوا بالقمح وربطوه ببشرة المصريين - حتي لوني قمحي لون خيرك يا مصر - الآن وفي 2010 نعاني أزمة توفير احتياجاتنا من الغذاء الرئيسي. في هذا التحقيق نحاول الإجابة عن السؤال القديم الجديد.. لماذا لا نزرع القمح؟ كما نتحاور مع الدكتور عبدالسلام جمعة المعروف بأبو القمح المصري ومحمود عبدالحميد رئيس الشركة القابضة للصوامع.. لعلنا نعرف السر من التفاصيل. مزارعون : ضعف إنتاجية الفدان وانخفاض أسعار التوريد وراء تركنا زراعته بعد حظر روسيا تصدير بعض السلع الاستراتيجية ومنها القمح، عقب الحرائق التي شهدتها مؤخرا، تعرضت مصر لمشكلة كبري نتيجة نقص المخزون الاستراتيجي من القمح الذي لا يكفي إلا لحاجة 4 أشهر فقط حسبما صرح وزير التجارة والصناعة. ومع البحث عن دولة موردة بديلة.. طرحنا سؤالاً مختلفاً لماذا لا نزرع القمح ليكفي حاجاتنا... ولماذا يعزف الفلاح المصري عن زراعة القمح في الوقت الذي يعتبر فيه أمنا قومياً؟ .. وكيف يمكننا تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح؟ - روزاليوسف استطلعت آراء عدد من الفلاحين في محاولة للوصول إلي إجابة عن السؤال . علي السبكي - فلاح من المنوفية أشار إلي ضعف انتاجية الفدان نتيجة قلة خصوبة التربة بسبب تهالك وقدم شبكات الصرف الزراعي في مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية حتي أن بعضها يتعدي عمره 40 عاماً، مما يتسبب في وقوف المياه في الأراضي لفترات طويلة ومن ثم تلف المحاصيل وقلة الإنتاجية. .. ويلفت إلي أن الفلاح يخسر في كل الأحوال خاصة في ظل ارتفاع الإيجارات «5 آلاف جنيه للفدان سنوياً» وقلة الإنتاج وانخفاض أسعار التوريد بشكل يتجاهل عرقه الفعلي في الأرض ويضعه في المرتبة الأخيرة، رغم أنه في المرتبة الأولي فهو القائم بالزراعة والحصاد والبيع بعد حجز احتياجات وأسرته من القمح. .. إبراهيم عيسي فلاح أشار إلي أنه يكتفي بزراعة نصف فدان من القمح فقط من أجل سد احتياجاته أسرته المكونة من 4 أفراد ورغم أنه يعلم أن الناتج من المحصول لا يغط تكاليف الزراعة إلا أنه كفلاح اعتاد طوال حياته علي العمل في الأرض ولا يستطيع تركها. .. إبراهيم يقول إنه سوف يتجه إلي زراعة محاصيل حقلية أخري تكون تكلفة زراعتها أقل من القمح وعائدها سريعاً وغالباً ستكون الخضروات التي يكون حصاد محصولها سريعاً وسهلاً وغير مكلف. .. ويستطرد : تقع المسئولية الكبري علي الدولة من خلال ضرورة رفع سعر التوريد حتي يعود المزارع لزراعة مساحات كبيرة من القمح في هذه الحالة سيكون موقناً بأنه سيعوض من قبل الدولة وأنه سيجد مقابلاً لتعبه. جمال امبابي.. من أشمون منوفية.. يلفت إلي أن هيئة الإصلاح الزراعي كانت تفرض علي المنتفعين بالأراضي التابعة لها أن يزرعوا القمح قبل 5 سنوات وذلك بنظام التناوب بين الأحواض الزراعية المختلفة، وكانت تلزم المنتفعين بتوريد إنتاج المحصول بأكمله بالسعر الذي تحدده الحكومة. ويؤكد عزوف الفلاح حالياً عن زراعة القمح خاصة بعد امتناع الدولة عن إجباره علي زراعته بعد تعدد الشكاوي من خسائر الفلاحين المتكررة والناتجة عن زراعة القمح وتدني أسعار التوريد. .. ويحصر جمال الحل في عودة إجبار الفلاحين علي زراعة القمح بالتناوب بين الأحواض الزراعية كما كان يحدث سابقاً، ولكن مع مراعاة السعر وأن يحقق هامش ربح مناسباً للفلاح حتي يتسني له خدمة الأرض وتحسين الإنتاجية. الدكتور مصطفي عمر الأستاذ بمعهد بحوث المياه والأراضي والهيئة يربط بين عزوف الفلاح عن زراعة القمح وبين عدم حصوله علي عائد مجز يغطي التكاليف التي أنفقتها علي المحصول، في الوقت الذي تحدد فيه الدولة أسعاراً متدنية للتوريد حيث حددت سعر 240 جنيهاًً للأردب زنة 150 كيلو جراماً. .. ويلفت إلي أن المزارع يميل إلي العامل الاقتصادي للدرجة الأولي، وليست لديه القدرة علي تحمل الخسارة خاصة إن الكثيرين هم من المستأجرين وليسوا ملاكاً للأراضي الزراعية، وفي حالة الخسارة لن يجد ما يتقوت به هو وأسرته. .. ويشدد علي أن القمح قضية أمن للمزارع والحكومة والدولة كلها.. وأنه عندما رفعت الدولة سعر التوريد عام 2005 إلي 390 جنيهاً للأردب زادت المساحة المنزرعة بالقمح في الموسم التالي من 2.5 إلي 3 ملايين فدان ثم 3.1 مليون فدان في الموسم الثالث، ثم انخفضت المساحة إلي 2.5 مليون فدان مرة أخري بعد انخفاض سعر التوريد فيما يوضح العلاقة الوثيقة بين سعر التوريد وزيادة المساحات، حتي أن المزارع حالياً لا يهتم بخدمة الأرض أو المحصول لأنه غير مجد بالنسبة له مما تسبب في انخفاض إنتاجية الفدان. .. ويطالب الدولة بضرورة ادراك أن قضية القمح هي قضية أمن قومي من الدرجة الأولي ولذلك فإن تحقيق الاكتفاء الذاتي الآمن من القمح هو مسئولية وضرورة قصوي تقع علي عاتقها. الدكتور محمد النحراوي - المدير السابق بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية ومستشار رئيس مركز البحوث الزراعية - يشير إلي أن البرسيم هو أكبر منافس للقمح عند الفلاح المصري حيث تتم زراعتها في نفس الفترة، ويحتاج المزارع إلي توفير الغذاء للمواشي التي يربيها. .. ويلفت إلي أن زيادة إنتاجية محاصيل الحبوب هي القاسم المشترك المتسبب في زيادة الإنتاج، وأنه يجب استنباط أصناف عالية المحصول لتتحمل وتقاوم الظروف البيئية والبيولوجية المعاكسة كالجفاف والحرارة والملوحة والآفات علاوة علي تنفيذ توصيات الأجهزة البحثية والإرشادية والحملات القومية. .. ويشير إلي ضرورة توفير الأعلاف من مصادر متنوعة من أجل توفير مساحات إضافية لزراعة القمح.. إضافة إلي ترشيد الاستهلاك من القمح خاصة في ظل وجود فاقد في القمح يصل إلي 50% في بعض الأحيان بداية من الحصاد ومروراً بالنقل والتخزين والطحن والعجن والخبيز والتسويق، ويؤكد أن الدراسات الاقتصادية تؤكد أن معدلات الاستهلاك السنوية مرتبطة بالسياسة السعرية للقمح ومنتجاته.. ويشير إلي تغيير النمط الاستهلاكي من خلال خلط دقيق القمح بدقيق الذرة الشامية والرفيعة والشعير. .. ويلفت النحراوي إلي استمرار الأزمة بسبب الاستهلاك المغالي فيه من القمح حيث يصل في مصر إلي 3 أضعاف المتوسط العالمي، مشيراً إلي أن السبب في زيادة الفاقد في القمح هو السياسة الحالية للدعم الذي تلعب دوراً مهماً في تحديد سعر القمح ومنتجاته وانخفاض أسعار التوريد للحكومة. .. وينتقد عدم احترام رغيف العيش وتهريب آلاف الأطنان من الدقيق المدعم إلي السوق السوداء، وجعل القمح وجبة تغذية أساسية للماشية والأسماك بدلاً من الأعلاف نظراً لفروق الأسعار إضافة إلي وصول دعم رغيف العيش لغير مستحقيه.. ويشدد علي ضرورة عودة القرية جزئياً إلي الاعتماد علي نفسها في توفير رغيف العيش. .. الدكتور محمد النحراوي يري أن عودة التكامل بين مصر والسودان مرة أخري يمكنه المساعدة في التغلب علي الفجوة الغذائية سواء في القمح أو الأعلاف أو غيرها لتوفير المصادر الطبيعية الأساسية بها من أرض صالحة للزراعة ومياه.. مشيراً إلي تعقيب سابق من وزير الزراعة السوداني علي اقتصاديات النقل بين مصر والسودان بقوله أنكم تنقلون القمح المستورد من الخارج بسهولة فما بالكم بنقله من أراضي السودان التي تبعد 30 كيلو متراً من الحدود المصرية. .. ويؤكد النحراوي أن تنفيذ تلك المحاور يمكنها تحقيق الأمن الغذائي المصري مشيراً إلي أن ذلك يحتاج بعض الوقت لوضع الخطط وتنفيذها إضافة إلي تكاتف وتعاون مستمر من جميع الأجهزة المعينة بالدولة.