ولعظم شأن الزواج ارتبط عقده بأحكام غاية في الدقة والإحكام نظرًا للآثار المترتبة عليه ومن تلك الأحكام الخطبة وهي: فعلة كقعدة وجلسة، يقال: خطب المرأة يخطبها خطبا وخطبة، أي طلبها للزواج بالوسيلة المعروفة شرعًا وعرفًا، والخِطبة من مقدمات الزواج. وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية ليعرف كل من الزوجين صاحبه، ويكون الإقدام علي الزواج علي هدي وبصيرة. ولا تباح خطبة المرأة إلا إذا توافر فيها شرطان: (الأول) أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال. (الثاني) ألا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية، فإن كانت ثمة موانع شرعية، كأن تكون محرمة عليه بسبب من أسباب التحريم المؤبدة أو المؤقتة، أو كان غيره سبقه بخطبتها، فلا يباح له خطبتها، وتحرم خطبة المعتدة، سواء أكانت عدتها عدة وفاة أم عدة طلاق، وسواء أكان الطلاق طلاقا رجعيا أم بائنا، فإن كانت معتدة من طلاق رجعي حرمت خطبتها، لأنها لم تخرج عن عصمة زوجها، وله مراجعتها في أي وقت شاء أثناء العدة، وإن كانت معتدة من طلاق بائن حرمت خطبتها بطريق التصريح، إذ حق الزوج لا يزال متعلقا بها، وله حق إعادتها بعقد جديد، كما أن تقدم رجل آخر لخطبتها اعتداء عليه، واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه، وإن كانت معتدة من وفاة فإنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح، لأن صلة الزوجية قد انقطعت بالوفاة، وإنما حرمت خطبتها بطريق التصريح، رعاية لحزن الزوجة وإحدادها من جانب، ومحافظة علي شعور أهل الميت وورثته من جانب آخر، يقول الله تعالي: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سرًا، إلا أن تقولوا قولا معروفا، ولا تعزموا عقدة النكاح حتي يبلغ الكتاب أجله، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه)، والمراد بالنساء، المعتدات لوفاة أزواجهن، لأن الكلام في هذا السياق، ومعني التعريض أن يذكر المتكلم شيئًا يدل به علي شيء لم يذكره، وإذا صرح بالخِطبة في العدة ولكن لم يعقد عليها إلا بعد انقضاء عدتها فقد اختلف العلماء في ذلك، قال مالك: يفارقها، دخل بها أم لم يدخل. وقال الشافعي: صح العقد وإن ارتكب النهي الصريح المذكور. واتفقوا علي أنه يفرق بينهما لو وقع العقد في العدة ودخل بها. وهل تحل له بعد أم لا؟ قال مالك، والليث، والأوزاعي: لا يحل له زواجها بعد. وقال جمهور العلماء: بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء، ويحرم علي الرجل أن يخطب علي خطبة أخيه، لما في ذلك من اعتداء علي حق الخاطب الأول وإساءة إليه، وقد ينجم عن هذا التصرف الشقاق بين الأسر، فعن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - قال: (المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل له أن يبتاع علي بيع أخيه، ولا يخطب علي خطبة أخيه حتي يذر). رواه أحمد ومسلم، ومحل التحريم ما إذا صرحت المخطوبة بالإجابة، وصرح وليها الذي أذنت له، حيث يكون إذنه معتبرا، وهذا من سمو الشريعة وعلو شأنها في مراعاة نفوس الآخرين وعدم التعدي علي ما يجرح المشاعر ويوغر الصدور ويزيد من الشحناء والبغضاء في المجتمع، فعُلم أن الالتزام بهذه التشريعات الغائبة عنا يؤدي إلي تسكين النفوس الثائرة والنفوس المجروحة، ومن تمام كمال هذا التشريع شرع الإسلام للخاطب أن ينظر إلي مخطوبته مما يرطب الحياة الزوجية ويجعلها محفوفة بالسعادة محوطة بالهناء، أن ينظر الرجل إلي المرأة قبل الخِطبة ليعرف جمالها الذي يدعوه إلي الإقدام علي الاقتران بها، أو قبحها الذي يصرف عنها إلي غيرها. والحازم لا يدخل مدخلا حتي يعرف خيره من شره قبل الدخول فيه، قال الأعمش: كل تزويج يقع علي غير نظر فآخره هم وغم، والناس في ذلك بين إفراط وتفريط فمنهم من يغالي ويحول بين الخاطب ومخطوبته في دوام النظر والتمعن لكلا الطرفين بل بعضهم يتعنت ويكتفي بنظرة واحدة أو زيارة واحدة أو يحددها بأعداد معينة، والحق أنه لا توجد أدلة لتحديد عدد للنظرات أو اللقاءات الأسرية بل الأدلة ترخص للمخطوبين بإمعان النظر والتأني وتبادل الأحاديث المباحة في إطار المحارم، ومنهم من يطلق العنان للمخطوبين كأنهما زوجان وليسا مخطوبين، والحق بين هذا وذاك. وللحديث بقية.