تجليات الأبوة تختلف في تجربة حياة كل منا، وتصوغ نفسها من مفردات لها خصوصيتها وتفردها، بالضبط كبصمة اليد ليس لها شبيه. وعبر هذا الاقتراب أجدني أمام مهمة عسيرة حين أكتب السطور القادمة عن أبي، إذ إن محاولة الكتابة عن ذلك الساخر العملاق تعني - بقول واحد - مسيرًا شاقًا لاختراق غابة تشابكات بين الخاص والعام.. الشخصي والوطني.. الذاتي والمهني. أبي هو تلك الروح الفلاحية المعجبانية، المزهوة ، إلي آخر لحظات وجودها بانتمائها إلي طين ساحل الجوابر في الشهداء - منوفية. أبي هو إحدي طلائع الصحافة الوطنية في هذا البلد - والذي منذ دخل إلي «روزاليوسف» مجردًا ريشته المقاتلة من غمدها شاهرها في وجه السراي والإنجليز والمؤسسة الحزبية القديمة - ظل مشتبكًا في قضايا الأسلحة الفاسدة، والإقطاع، والجمود الديني والاستقلال، والتمهيد للثورة ثم معاركها بكل خلية في كيانه وفكره ووجدانه، حاشدًا كل قدراته علي الإبداع. أبي هو الذي ازدانت صفحات هذه المطبوعة الباسلة برسومه لسنوات، وهي - التي ربما - لا يعرف الجيل الجديد (الذي تم تغييبه وتسطيحه وتجهيله) الكثير عن تاريخها، وعن أسماء الكتيبة الرائعة التي شكلت مسارها الوضاء.. إحسان عبدالقدوس.. أحمد بهاء الدين.. عبدالرحمن الشرقاوي.. محمود السعدني.. كامل زهيري.. صلاح حافظ.. محمد عودة.. لويس جريس.. حسن فؤاد.. عبدالله إمام.. صلاح چاهين.. فتحي غانم.. أحمد حجازي.. صلاح الليثي.. بهجت عثمان.. أحمد عبدالمعطي حجازي.. إيهاب شاكر.. رجائي ونيس. كما لم تعرف الأجيال الجديدة عن أن هذه المطبوعة كانت الحضن الذي تلقف إبداعات الجماعة الثقافية بأسرها - والتي لم يك أفرادها جزءًا من هيكلها التحريري - حين عزت عليهم الحرية في كل الصحف والمطبوعات فالتجأوا إلي «روزاليوسف» ناشرين نتاجهم الفني والأدبي والسياسي.. هكذا كانت (نداهة) يوسف إدريس، و(عم لامبو) الأبنودي وغيرهما. أبي كان قطعة مضيئة باهرة من تاريخ الكاريكاتير المصري (أكثر الفنون المرئية شعبية وديمقراطية)، وباستخدام كل وسائط تعبيره، وبتنويع أساليبه الفنية انحاز إلي معني السخرية النبيلة الراقية، وعلم من شاء أن يتعلم - في ذلك الزمان - معني أن يكون الضحك وسيلة إلي التغيير. أبي كان واحدًا من طلائع جيل المثقفين الكبار، الذي ننظر إلي الواحد منهم - دهشًا - حين يتحرك بكل تلك الحمولة من المعرفة، والثقافة العامة، دون ادعاء أو استكبار، أو مظهرية. أبي أسس معني الاستقلالية في مدرسة الكاريكاتير المصري حين رفض أن يفكر له أحد - بعبارة أخري - رفض أن يسلم دماغه إلي آخر، واشترط علي الأستاذ إحسان عبدالقدوس حين التحق بهذه المجلة - كما كتب إحسان في مقدمة كتاب عبدالسميع «أبيض وأسود» تحت عنوان: (من صميم الشعب) - ألا يطلب منه مهاجمة الوفد، فلما شعر الرسام بعدها أنه يريد انتقاد الوفد، فعل من دون إيحاء ولا إملاء. أبي دفع ثمن هذه الاستقلالية مرات، إحداها حين انتقد موقف الثورة في أزمة مارس 1954، عبر سلاسل صاخبة من الرسوم في روزاليوسف بعنوان: (النفاق في حديقة الحيوان)، وكذلك حين خرج من دار التحرير للطباعة والنشر (الجمهورية) في ما عرف بمذبحة الصحافة 1964، التي نُقل فيها الصحفيون إلي أعمال غير صحفية، وكان نصيبه مؤسسة تعمير الصحاري، ولكنه لم يتوقف عن السخرية - حتي - من عجزه أمام جبروت السلطة الإدارية السياسية والأمنية، فكنت أسمعه يقول لصديق عمره الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوي، الذي خرج في ذات المذبحة: «برضه يا عوف تعمير الصحاري بتاعتي أقل زفارة من الثروة السمكية بتاعتك»!! أبي هو واحد من جيل العفاف في الخصومة، والحلم الوطني الكبير، ومعني المهنية الحق، واحترام الزمالة والصداقة، وإنسانية الانحياز الاجتماعي. وحضور تلك المعاني في نفسي عن أبي لا يخصم من حيز، أو عمق تجربتي الذاتية معه، إذ شاء الله أن أعمل في ذات المجال المهني، وفي نفس الساحة الإبداعية، فكان طبيعيا أن أسترجع مفردات حضور أبي فيهما كل لحظة.. كل لحظة، وإن كان شكل الزمن تغير، وتلوثت البيئة الصحفية والسياسية في مصر علي نحو غاب فيه تأثير ذلك المناخ البديع الذي نشأت وربيت فيه، والذي استقطرت منه كل المعاني السابقة وقد بلورت فهمي للدنيا، وللسياسة، وللصحافة. وحين أخط سطورًا عن معني الأبوة في أبي أجدني مشدودًا إلي توصيف ذلك الفيض الإنساني الهائل من المشاعر، وقد غمرني - وأخي المرحوم العميد أحمد عماد عبدالسميع، وأختي المهندسة عنان عبدالسميع، ووالدتي الزوجة والأم الرؤوم - كالودق طوال حياته، وحتي في سنوات الاحتضار. هو الذي كان مهمومًا - ربما بأكثر مما تسمح شواغله - بأن يشرح لي آيات القرآن الكريم ويضبط مخارج ألفاظي حين أرددها، ويحفظني مئات من أبيات الشعر العربي، ويصطحبني - طفلاً - إلي معارض الفن التشكيلي، والعروض المسرحية والموسيقية ومباريات الرياضة، وبما جعل اهتماماتي مبكرًا جدًا - مغايرة لجيلي، وبما جعل لغتي المنطوقة والمكتوبة علي النحو الذي ميزها إلي الآن. هو الذي زرع في نفسي الانحياز إلي الفلاحين والبسطاء من ملح الأرض، الذين لم أعش وسطهم، ولكنني عشت مشدودًا إليهم، وإلي مصالحهم، وإلي إبداعاتهم، وإلي طرائقهم في التعبير. وهو الذي أورثني السخرية من كل ما حولي، وكل من حولي، وحتي من نفسي، ومن انعدام قدرتي علي مواجهة بعض ظلم غاشم، أو مؤامرات كفخاخ معفونة فكانت تلك السخرية هي آلية الدفاع الذاتي، التي مكنتني - إلي اليوم - من الصمود أو التصدي. وهو الذي علمني الانتصار للمعايير، ولفتني إلي خطورة تغييبها أو اغتيالها، وهو المفهوم الذي لم أدرك معناه - صغيرًا - ولكنني فهمته - بالضبط - في الخمسين حين واجهت ومازلت أواجه، ظلمًا مهنيا فادحًا يتسع نطاقه في كل يوم، بسبب غياب المعايير وسقوطها علي النحو الذي يتجلي حولنا بشكل غير مسبوق. وهو الذي لقنني أن وجود الإنسان لذاته، لا ينفصل عن وجوده للآخرين، مطالبا إياي بأن أنقل علمي إلي أجيال أخري، وبأن يكون لي تلامذة من الموهوبين، آخذ بأياديهم، وأعينهم علي الوجود والتحقق، وهكذا فعلت، ما استطعت إلي ذلك سبيلاً في الجامعة والصحافة. هو الذي علمني الإصغاء إلي أبسط البسطاء، ومازلت أذكر كيف جلس وأجلسني علي حافة قناة في ميت غمر - دقهلية، إلي جوار فلاحة عجوز في الثمانين لا يعرفها، ولكنها نادته، وانطلقت في حديث طويل عن شعورها أن الدنيا خلت من حولها حين مات أولادها، فأنصت إليها وطيب خاطرها، داعيها لأن تتصل به إذا احتاجت شيئًا، وقد ظلت علي صلتها به حتي قضت. كان ذلك ما يفعله طوال عمره منذ عمل في مصلحة المساحة قبلما يلتحق بالصحافة، واستمر فيه بإحساس حقيقي.. طيب ورهيف. هو الذي حملني وطاف بي مصر، فتعرفت عالمًا آخر غير الذي تزخر به مقاهي ونوادي، وتجمعات وسط البلد، والمدن الجديدة. وهو الذي حملته وطفت به العالم.. فكرة، وقيمة، وعاطفة وإبداعًا لن يغيب حضورهم في حياتي - أبدًا - حتي آخر لحظات العمر.