في الليل، وبينما كنتُ فناناً كئيباً ألتهمُ بطرفٍ ما صنعته بالطرف الآخر، مُشرِّعاً ضد إبداعي، لأنني أُبدع ضد شريعتي، كنتُ أيضاً مع الصورة التي رسمها بالكلمات فرانز كافكا علي لسان قرده بيتر الأحمر في قصة تقرير إلي الأكاديمية. إن رياحاً أو نسائم من الماضي البعيد، تهبُّ قوية أو ضعيفة علي كعوب البشر، وتلعب هناك في دوَّامات هوائية رقيقة، دغدغة بيولوجية تحمل معها ذكريات مبتورة غامضة عن أصول مزعجة. هبَّتْ النسائم في البداية حول كعبي بيتر الأحمر، وهو الآن يشرح لأعضاء الأكاديمية، أن كل إنسان مُعرَّض لتلك النسائم، أخيل العظيم مثل القرد بيتر الأحمر. لا يتعلق كثيراً أدب فرانز كافكا الحيواني بالحكاية الداروينية المعروفة، إنما يتعلق أكثر بالنداء الصامت المُتبَادَل بين مملكة الإنسان ومملكة الحيوان، وهو نداء لا يثبت شيئاً، ولا يرفع نوعاً علي نوعٍ آخر، وإن كان للنداء في النهاية أن يثبت شيئاً، فليس سوي الألم، وإن كان له أن يرفع ما يستعصي علي الأنواع جميعاً، فليس سوي الزمن. في واحدة من نفايات كافكا، الأكثر غموضاً، يصفُ فندقاً، أو خاناً لا سبيل للنوم فيه، والنفي في النفاية يشمل النوم والنائم معاً. كان كافكا ينفر من الاستعارات والمجازات التي تحملها الكلمات، ولهذا يستخدم الكلمات بصورة تقريرية واضحة، وعندما ينفي عن الفندق النوم والنائم علي حد سواء، فهو يعني هذا حرفياً، لكنه يسأل لماذا يذهب أحد إلي الخان، ويجيب علي الفور، كي تستريح الوحوش من عبء الطريق، والحيوانات لها مساحة كبيرة في أدب كافكا، وإذا كان بروست ينتصر لمملكة النبات في أدبه، فكافكا ينتصر لمملكة الحيوان. بأمر غامض من أخوية الفندق شبه الدينية لا يسمَح للحيوانات بالدخول إلي فناء الفندق. المكان صغير، واحة صغيرة جداً، لكنها مُحتلَّة كلياً- والاحتلال هنا بمعناه العسكري الاستراتيجي الشبيه بثكنة مستعمرة العقاب- بحجم الفندق الكبير جداً. الآن نحن أمام معضلة فوق طبيعية، المُحتوي أكبر كثيراً من الحاوي، مثلما فعل بورخيس بعد كافكا في كتاب الرمل، وهو كتاب يحتوي علي عدد صفحات لا نهائية، بحيث أنكَ لو رأيتَ رسماً أو صورةً في صفحة 777، فلا سبيل إلي رؤية تلك الصفحة مرةً ثانية، لأن الصفحة التي تليها، والتي تسبقها لا تصل إليها أبداً، شرط ألا تحمل الصفحة التي تليها رقم 778، وألا تحمل الصفحة التي تسبقها رقم 776. وكعادة كافكا عندما يقوم بخرق قوانين الطبيعة المنطقية، يمر سريعاً إلي شيء آخر، كما يمر سريعاً علي تحول جريجور سامسا في صباح يومٍ، إلي حشرة كبيرة. يضع كافكا اللائمة علي الأسلوب المعماري الذي شُيد به الفندق أو الخان الغريب. علي سبيل المثال، لو دخل شخص ما الفناء الأول، بعد القوسين المستديرين اللذين يبعدان عن بعضهما البعض بمسافة ثلاثين متراً، واللذين من المفترض أن يقوداه- بعد الفناء الأول- للفناء الثاني، يجد نفسه في مُربَّع حيطان عالية كئيبة تصل إلي عنان السماء، مُحتكرةً مُربعاً آخر منها، ومن مُربَّع الحيطان المظلمة، يري المرء، وعلي ارتفاع مهيب، مُربَّع ضوء السماء. الآن يعتقد المرء أنه فقد طريقه، فيحاول العودة من القوس المعماري الثاني إلي القوس المعماري الأول، ولكن لا يستطيع المرور من القوس المستدير الذي جاء منه، بل من قوس مستدير آخر جانبه، وهو الآن ليس في الفناء الأول، إنه الآن في ميدان أكبر بكثير من الفناء الأول، مليء بضوضاء وموسيقي وجأر حيوانات غير مرئية. هكذا يفقد المرء طريقه، وهو يأمل في العودة إلي مُربَّع الحيطان المظلم عبر القوس المستدير الثاني الذي منه أدركَ متاهته، لكن بلا جدوي، ويجد نفسه في ميدان ثان، عندئذٍ لا بد أن يسأل المرء نفسه، أليس هناك طريق عودة للفناء الأول عبر الأفنية المتعددة، ومع أن الشخص التائه في حقيقة الأمر لم يتخط سوي خطوات قليلة بعيداً عن الفناء الأول، إلا أن العودة أصبحتْ مستحيلة. في العادة يجد الأشخاص التائهون أنفسهم بين حوائط الغرف التي ترتفع إلي عنان السماء، ويصاب كثيرون بضيق التنفس والاختناق بمجرد رؤية الحوائط عارية من أقواس الدخول، ورغم وجود مربعات السماء التي تبعث من الأعلي الضوء والهواء، إلا أن الارتفاع الشاهق لغرف الفناء الأول لا يسمح بوصول الضوء والهواء إلي أعماق الغرف، فيبقي الضوء معلقاً معظم ساعات النهار، بانكسار علي حواف الفتحات العلوية للغرف، ويبقي الهواء الجديد محوِّماً في الأعالي. لا يمنحنا كافكا نقطة رؤية شاملة ممتازة للفندق من الخارج، طالما أن الفندق يبتلع الواحة كلها، ويمكن فقط رؤية أعمدة الغرف التي تذهب إلي عنان السماء من واحات أخري مُجاورة، وفي الغالب لا يذهب أحد للواحات الأخري، إلا لجلب الماء لواحة الفندق الصغيرة، وفي الغالب أيضاً لا يري أحد ما سبباً يدعوه لإلقاء نظرة من هناك علي أعمدة غرف الفندق العالية، إذ يبقي الطراز المعماري للفندق في نظر الجميع كريهاً. يمنحنا كافكا فقط نظرةً قريبة لبوابة الخان الكبيرة الموصدة دائماً، وهي تحمل علي جانبيها العلويين ملاكين منحوتين، يحمل كل منهما بوقاً طويلاً موجهاً إلي أسفل البوابة، وخطر الاصطدام بطرفي البوقين يهدد بانهيار البناء كله، وهو خطر يخص الحيوانات وحدها عندما تدور بخوار مسموع قريباً جداً من طرفي البوقين، ومع أن أصحاب الحيوانات لا فضول لديهم للاقتراب من بوق الملاك، إلا أن أخوية الخان الصارمة تشدد في تحذيرها علي أخطاء اقتراب الأشخاص، أكثر من أخطاء اقتراب الحيوانات. ويقال إن الحيوانات تقترب بآذانها إلي طرفي البوقين لسماع نفخ الملاكين، لكنّ أحداً لا يستطيع إثبات ذلك.