امرأة مثيرة تتشابك أصابع يدها بزوائد جلدية أشبه بخياشيم الكائنات البحرية. يتجه إليها رجل ويهم بتقبيلها، مبديا إعجابه بيدها المشوهة قائلا: «يا لألعاب الطبيعة. إنك ضفدعة جميلة!». إنها صورة كابوسية من رواية «المحاكمة» للكاتب التشيكى الأشهر فرانز كافكا. هذه الصورة وغيرها نقلتها ببراعة ودقة الرسامة الفرنسية شانتال مونتلييه فى نسخة مصورة من الرواية، ترجمتها «دار الشروق» من الإنجليزية إلى العربية مؤخرا. كوابيس جوزيف ك. حين أرادت إحدى الصحف الأمريكية المحلية أن تعبر عن التدهور الذى تعيشه العراق على جميع المستويات خرجت الصحيفة إلى قرائها بمانشيت قصير من ثلاثة كلمات، «كافكا فى العراق». فى ذلك مثال واضح أن اسم الأديب التشيكى المتوفى فى 1942 قد أصبح مرادفا للسوداوية والكابوسية والظلم غير المبر وغياب الأمل. وإن كانت هذه سمات مميزة لكل أعمال كافكا الأدبية من روايات وقصص قصيرة، فإن رواية «المحكمة» التى نشرت عام 1925 هى واحدة من أكثر أعماله تعبيرا عن الأسلوب «الكافكاوى» فى الكتابة، الذى يمزج بين الكوميديا السوداء والعبثية، وبين الإغراق فى التفاصيل وغياب المعنى من ورائها، ويزول فيه الحد الفاصل بين الواقع والكابوس. تبدأ الرواية باستيقاظ بطلها جوزيف ك. من نومه على مجموعة من الرجال يقتحمون غرفته ويلقون القبض عليه ليقدمونه لمحاكمة. يقضى جوزيف طوال أحداث الرواية فى صراع مع المحكمة، يقاوم قانونا لا يفهم تفاصيله، ويلجأ إلى محامين يملؤهم الجشع. يكتشف جوزيف أن كتب القانون التى يدرسها القضاة ما هى إلا مجلدات مليئة بالصور الإباحية، وأن المحكمة لها فروع ومكاتب سرية فى كل مبنى بالمدينة، وأن قضاة المحكمة لم يمنحوا حكما واحدا بالبراءة طوال تاريخهم. إلا أن قمة العبثية تتمثل فى سعى جوزيف نحو البراءة ومضيه قدما فى الإجراءات القانونية، فى حين أنه لم يفهم أبدا ما هى التهمة التى يحاكم بسببها. الحرف الأخير فى اسم البطل «ك.» قد يكون إشارة إلى اسم كافكا فى تفسير كثير من النقاد. ومن هنا تكتسب «المحاكمة» أهمية خاصة فى أنها قد تكون أحد أكثر الروايات تعبيرا عن هواجس كاتبها ومخاوفه، ونافذة لفهم نفسيته. تدور أغلب أحداث الرواية داخل الدهاليز المظلمة للمكاتب الحكومية وقاعات المحاكم، الشبيهة فى وصفها بالطابع القوطى القاتم لقلاع العصور الوسطى بمدينة براغ، حيث ولد الكاتب. الرواية التى تتحدث عن إنسان يتعرض لأقسى أنواع العقاب البدنى والتعذيب النفسى دون ذنب واضح جناه، قد يكون نابعا عن عقدة الاضطهاد التى عانى منها الكاتب اليهودى، فقد شهد فى طفولته أعمال نهب وسلب موجهة ضد الأقلية اليهودية فى البلاد. أما وصفه لبشاعة النظام البيروقراطى الآلى المهيمن على الحياة الحديثة، فربما كان مستوحى من مهنة كافكا، الذى عاش موظفا فى أحدى شركات التأمين، يقضى الأيام بين تلال الأوراق وسخف الإجراءات القانونية. ويتجلى إيمان كثير من قراء «المحاكمة» فى أن جوزيف ك. هو تعبير روائى ذاتى عن كاتبها ، فى أن ملامح جوزيف فى النسخة المصورة شديدة الشبه بوجه كافكا. جمجمة وساعة وسكين العام الماضى قام الكاتب الأمريكى ديفيد مايرويتز بتحويل الرواية إلى سيناريو لقصة مصورة Comic Novel، وتولى رسمها شانتال مونتلييه. الكاتب هو مؤلف مسرحى ومخرج إذاعى ومترجم ومنتج شهير للأفلام الوثائقية، وله اهتمام كبير بالاتجاه العبثى فى الأدب، فإلى جانب «المحاكمة»، ألف ديفيد كتابين نقديين مصورين عن ألبير كامو وكافكا. أما الرسامة، فهى تصرح بانتمائها للنسوية اليسارية، وتمتلئ أعمالها السابقة بالعديد من المشاركات فى صحف ومجلات فرنسية يسارية، وروايات مصورة تنتقد توحش السلطة وأجهزة الأمن. لا يمكن لقصة مصورة، مهما بلغت من إتقان، أن تحل مكان النص الأصلى، خصوصا أن أسلوب كافكا له تميز وسمات معروفة، يفقد النص دونها قيمته، مثل استعمال الجمل شديدة الطول التى قد تمتد لصفحة كاملة، واستخدام الألفاظ ذات المعنيين. لكن القصة المصورة تنجح فى وظيفة أخرى، فلقد نقلت ببراعة وأمانة الصور المسخية لشخصيات الرواية، من وجوه مفزعة للجلادين القساة، وهياكل عظمية وسكاكين تنبئ بالمصير المحتوم لبطل الرواية، وساعات بلا عقارب تعمق الإحساس بالملل والاختناق المصاحب لأحداث الرواية. كائنات كريهة متخيلة تعيش فى أماكن حقيقية ومحيط واقعى، تجسد خيالات كافكا المفزعة فى صور بالأبيض والأسود لا تقل إفزاعا، مثل الصورة المعبرة عن ازدياد شعور جوزيف بالعجز والدونية، فيتحول إلى وجه آدمى فوق جسم ذبابة تختنق بالمبيد الحشرى. الرواية المصورة متعة حقيقية لعشاق كافكا الذين سيجدون معادلا بصريا مدهشا لما قد رسموه فى عقولهم مسبقا. أما قراء كافكا الجدد، فستمثل الرواية لهم مدخلا ممهدا لعالم روائى وعر، ملىء بالغرائبية والرعب.