اتصالاً مع ما كتبت أمس، تحت عنوان «الحاكم والسجان»، ومع المقالات الثلاثة الماضية، وفي سياق الحوار مع الدكتور سيار الجميل المفكر العراقي حول ما طرحته بشأن «الديكتاتور العادل» الذي يحتاج إليه العراق.. أواصل اليوم. لقد قلت للدكتور سيار إنه بالطبع لا يمكن مقارنة صدام حسين بمهاتير محمد.. لكن مهاتير هو نموذج للمستبد الذي أقصد أن العراق يحتاج إليه.. وقال سيار إنه لا يمكن مقارنة حال العراق بحال الهند.. لأن الهند عرفت بعد المؤسس غاندي كلاً من نهرو وابنته أنديرا.. كما ترافق ذلك مع بناء المؤسسات الحديثة في الهند. هنا لب القصيد «المؤسسات» تلك التي احتاج إليها العراق، وظن الكثيرون أن الولاياتالمتحدة سوف توفي بالوعد.. وترسخها.. حتي لو تقبلنا غصباً وعنوة عملية الغزو التي تمت.. لقد محت قوات الولاياتالمتحدة وحكامها العسكريون للعراق ما كان يمكن وصفه بأنه هياكل مؤسسات في البلد.. ولما محوها لم يضعوا لبنات غيرها.. بل ألصقوا ديكورات لمشاهد تليفزيونية.. قيل إن هذا برلمان.. وتلك حكومة.. وتلك أحزاب.. وهذا جهاز شرطة.. فلما جاءت ساعات الاختبار.. كان أن حدث الانهيار. بناء علي هوس مكارثي مريع يخشي من بقايا حزب البعث.. اجتث الاحتلال ومعاونوه في العراق أي نواة لمؤسسة كان يمكن أن تتطور فيما بعد.. بل وقضوا علي الجيش.. وسرحوا كل من فيه.. تماماً كما سرحوا المساجين في الزنازين.. فحدثت الفوضي.. وتحول المساجين إلي اللصوصية.. وأصبح العسكريون عناصر مبعثرة.. بعضها يقاوم.. وبعضها تائه.. وبعضها لا يجد ما يأكل.. وكلها جميعاً تكتنز غضباً مهولاً لا يمكن له أن يذوب بين يوم وليلة. الولاياتالمتحدة قالت إنها كانت تبني دولة.. لكنها عملياً ساوتها بالأرض.. والحاكم القوي هو الذي يمكنه أن يستعيد فتات الأشياء ويلصّم هذه إلي جوار تلك لكي يجعل هناك أرضية صالحة للبناء. الهند مختلفة تماماً، غاندي كان يقود ثورة من نوع فريد لتحرير بلده من الاحتلال، هدف اتفق عليه الهنود. لكن غزو العراق والإطاحة بصدام هو هدف تفرق عليه كل العراقيين.. ولا ينفي حقيقة استقرار الهند، أنها قد عانت من تعدد فئاتها وتنوعها طيلة الستين عاماً الماضية.. ولكنها بحر كبير جداً.. فيه بشر ينتحرون ويقتلون ويموتون جوعاً وطائفية.. في الوقت ذاته الذي فيه بشر يرغبون في الارتقاء.. وهو ما كان. الهند، قادتها قيادات التحرر، بدءاً من نهرو، مدفوعين بزخم التوحد خلف الحلم.. وبطاقة الوصول إلي الاستقلال.. لكن العراق محتل.. ومتفرق.. وأبناؤه يتطاحنون.. وهو بالطبع بلا مؤسسات.. ومن ثم لا يمكنه أن يبلغ ما بلغ الهند المتنوع من استقرار، ولذا فإن العراق يحتاج إلي من يختصر المراحل.. إلي أن يحكم القبضة.. أن يفرض القوة.. أن يتجاهل بعض معايير العدل من أجل التوحد.. أن يتخطي اعتبارات الديمقراطية التي في الكتب حتي يجعل كل العراقيين علي مائدة واحدة.. ولو قهراً.. إلي أن يتذاوبوا وينصهروا. ومن الواضح أنني والدكتور سيار نتفق في أن التي صنعت هذا الفراغ الرهيب هي الولاياتالمتحدة.. ولكنني لا أتفق معه علي أن الكوادر العراقية الكفء المبعثرة حول العالم.. يمكنها أن تعيد العراق إلي سياقه وحدها.. هؤلاء التكنوقراط يمكنهم أن يعينوا دولة عراقية جديدة لكنهم لن يتمكنوا من أن يصنعوا بيئة تؤدي إلي تلك الدولة.. وبالتالي إن ما يريده العراق هو شخص من الداخل لديه شرعية ما.. قد تكون فيها عناصر قبلية.. وقد تكون فيها تراثات من ميراث مؤسسات.. وقد تكون فيها جهود بُذلت ضد الاحتلال.. من تلك التي تصنف علي أنها مقاومة وليست إرهاباً.. حتي لو أعطاه الاحتلال فرصة بناء صيته علي حساب الاحتلال ذاته. إن هذا وحده هو الذي يمكنه أن يصنع وضعاً مختلفاً في العراق.. بعدها عليه أن يستدعي كل العقول التي تناثرت من دماغ العراق في كل أنحاء العالم. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]