في أثناء الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت بريطانيا في وضع عسكري محرج، وضع أقرب إلي الهزيمة، أصدر قاض بريطاني حكماً بنقل قاعدة عسكرية بريطانية من مكانها إلي مكان أخر، لأنها، وفق رأي القاضي، تؤثر سلباً علي عمله، وتجعله لا يستطيع التركيز فيما يعرض عليه من قضايا، وفيما يصدره من أحكام.. وعندما عُرض الأمر علي القائد «تشرشل» أمر بالتنفيذ الفوري للحكم، وقال قولته الشهيرة «لئن يقال هزمت بريطانيا في الحرب أشرف من أن يقال تدخلت بريطانيا في أعمال القضاء»! جالت هذه القصة بخاطري خلال يوم الأربعاء الماضي، وأنا استمع إلي تصريحات الرئيس عندما سئل عن امكانية تدخله شخصيا لحل الأزمة الراهنة بين المحامين والقضاة.. أشار الرئيس مبارك إلي أنه لم يكن يود أبداً أن تحدث هذه الأزمة وأن تستمر، لأنها أزمة بين جناحي العدالة، ممثلين في القضاء المصري سدنة العدالة بكل ما تحمله من تقدير وتوقير واحترام، والمحامين المصريين الذين يمثلون القضاء الواقف.. وذكر الرئيس أنه يأمل أن يحل كلا الجانبين هذه الأزمة في أسرع وقت ممكن بالعقل والحكمة وإعلاء القانون، وأكد الرئيس مبارك أنه لم ولن يتدخل في أحكام قضائية، وأن الأمر متروك لعقلاء القضاة والمحامين لكي ينهوا هذه الأزمة في اطار من الاحترام المتبادل واحترام القانون. وتثير تصريحات الرئيس مبارك بشأن هذه الأزمة عدة دلالات، منها ثبات منهج الرئيس ورؤيته لاستقلال القضاء، وعدم تأثير الأحداث العارضة أو الأزمات الطارئة علي هذه الرؤية.. فمن يتدخل في الأزمات يتدخل في غيرها، ومن يفرض رأيه في موضوع، حتي وان دعت الضرورة ما هو محظور، يفرض رأيه في أمور أخري، وهو ما يرفضه الرئيس مبارك.. فهو يؤمن باستقلال القضاء، وهو يريد لهذا المبدأ أن يستقر بلا حالات استثنائية، وبلا تدخل منه ولو علي سبيل الحالة الطارئة. كما تشير هذه التصريحات إلي ثقة الرئيس في عقلاء القضاة والمحامين، وفي قدرتهم علي احتواء الأزمة.. ولابد من الاشارة هنا إلي أن الأزمة لا يجب أن تخيفنا أو تفزعنا.. ولابد من الاعتقاد في أنها أزمة طارئة، حتي وإن اتخذت مساراً لا نرتضيه أو شكلاً من العنف المتبادل لا نقبله.. وكنا نتمني جميعا أن يكون خلافا في الرأي، لا اختلافا بين الطرفين. ستنتهي الأزمة إن شاء الله، وستجتمع كلمة طرفي العدالة مرة أخري، وسيتم نسيان أسباب الخلاف ودواعي الاختلاف، غير أن ما سيبقي هو ما أراد الرئيس مبارك ترسيخه علي مدي سنوات حكمه، وهو استقلال القضاء، وعدم تدخل الرئيس في أموره.. ولئن يقال اختلف القضاة مع المحامين أفضل من أن يقال تدخل الرئيس مبارك في أعمال القضاء المصري.