بقدر علمنا لا توجد ظاهرة الدروس الخصوصية إلا في مصر المحروسة، حتي في تلك المجتمعات التي يمكن أن توجد فيها هذه الدروس فإنها لم تصل إلي حد الظاهرة، بل يتم إعطاؤها علي استحياء في هذه المجتمعات. أما كيف وجدت في مصر، وكيف نمت وكبرت وكشرت عن أنيابها؟ فهذه حكاية تستحق أن تروي. فيقال - والعهدة علي الراوي لتاريخ التعليم المصري - أنها ظهرت - ولأول مرة - عام 1901، ولأغراض إنسانية نبيلة، تتلخص في مساعدة ضعاف الطلاب علي التحصيل، خاصة في العلوم واللغات، وأيضًا كإعانة مالية لذوي الدخل المحدود من المعلمين. وفي ظل سياسة الاحتلال التي وضعها للتعليم المصري، ومع ضعف مستوي المدارس، بدأت تنمو، ولكن بين أبناء الطبقات الغنية، حيث لم يكن متاحا لأبناء الأغلبية من الفقراء الحصول علي فرصة التعليم الموصل للمراحل العليا، اللهم إلا بعد صدور دستور 1923، واعتبار التعليم الابتدائي بالمجان، ومع انتشار التعليم شيئًا فشيئًا بدأت تتزايد الدروس الخصوصية، لكن وفقط لم يكن يتعاطاها إلا المتأخر دراسيا. ومع ذلك وبالرغم من محدوديتها في ذلك الوقت إلا أن ولاة أمر التعليم وقتها رأوا فيها نقيصة وعيبًا، وتزيد من أعباء الأسرة فقرروا مواجهتها، وحدث ذلك - ولأول مرة - في عهد نجيب الهلالي باشا وزير المعارف آنذاك، وبالتحديد عام 1935، حيث قام - إلي جانب بعض إجراءات تحسين العملية التعليمية - باستحداث نظام «المذاكرة بالمراقبة داخل المدرسة»، أي أراد أن تقوم المدرسة مقام البيت، ففي المدرسة يقوم التلاميذ بعمل واجباتهم المدرسية تحت إشراف معلميهم. كما استحدث نظام «الدروس الإضافية» والذي عرف فيما بعد بنظام «مجموعات التقوية»، وتحول في هذا الزمن الرديء إلي «سبوبة» لكل العاملين في المدرسة. هذا إلي جانب ما قام به «نجيب الهلالي» من تحسين الأحوال المادية للمعلمين. لكن وبالرغم من كل هذه الجهود، إلا أنه لم يستطع السيطرة عليها، وأخذت في النمو والتزايد لكن كانت مع كل هذا محدودة للغاية، ولم تكن تشكل بعد ظاهرة يخشي منها. وجاءت ثورة يوليو عام 1952، وانتشر التعليم، وحصل الفقراء علي الفرصة كاملة كأحد مبادئ ثورة يوليو، وأيضًا استمرت الدروس الخصوصية وفي حدود معينة، ولأسباب حقيقية تتعلق بمستوي ضعف التلاميذ في التحصيل - واستمر الوضع هكذا، وفي حدود ضيقة إلي أن جاء عقد السبعينيات من القرن الماضي، وبالتحديد بعد الأخذ بسياسة الانفتاح بدأت تظهر المدارس الخاصة، والدعوة إلي إنشاء جامعات خاصة، بل وبدأت تظهر مدارس اللغات وتزايدت معها الدروس الخصوصية ليس فقط من باب الوجاهة الاجتماعية، وإنما أيضًا لسوء العملية التعليمية، ولم تعد مقتصرة علي أبناء الأغنياء، وإنما أيضًا لأبناء الأغلبية من الفقراء، وفي ظل تحكم المجموع، والدرجة، في تحديد مستقبل «الولاد» وجدت الدروس الخصوصية التربة الخصبة للانتشار. ولن نتحدث عما تتكلفه الأسر المصرية لتعاطي هذه الدروس، ويكفي أنها تلتهم ما لا يقل عن 25% من دخل الأسرة، ويزيد ما ينفق علي هذا التعاطي سنويًا حوالي 15 مليارًا من الجنيهات أو ما يزيد بل ويقارب ما تنفقه الدولة علي التعليم، لنتجاوز كل هذا ونشير إلي الأخطار الثقافية والأخلاقية والسلوكية للدروس الخصوصية، فلقد باتت تنخر في عظام المؤسسة التعليمية، وعظام المجتمع، وتشكل ثقافة خاصة بها داخل الثقافة العامة للمجتمع. إن القضية تحتاج إلي أمور ضرورية وأساسية يأتي في مقدمتها: 1- تحمل الدولة لمسئوليتها وهي توفير الميزانية الكافية للتعليم، والتي يجب أن تكون علي الأقل ثلاثة أضعاف ما هو مخصص الآن، وهنا نقترح ما سبق أن أشار إليه البعض من ضرورة فرض «ضريبة» تحصل من كل مواطن اسمها «ضريبة التعلم» تفرض علي كل الأنشطة التي يقوم بها الأفراد، الهيئات والمؤسسات، مع فتح باب التبرع الشعبي في كل الأماكن، الكفور والنجوع. 2- إثارة وعي الجماهير من خلال ميديا الإعلام، والمساجد والكنائس بخطورة الدروس الخصوصية علي مستقبل الأبناء، وآثارها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الخطيرة، وأيضًا إثارة وعي التلاميذ والطلاب بهذه الأخطار من خلال الندوات في المؤسسات التعليمية والأندية الرياضية. 3- ثم وتباعا يتوالي إصدار القوانين والتشريعات التي تجرم وتحرم ظاهرة الدروس الخصوصية، وبالنسبة للتعليم الجامعي فإنه يجب تفعيل قانون الجامعة الذي يجرم تعاطي هذه الدروس، بل وفصل من يقوم بها من أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم. باختصار ضرورة التعامل مع وباء الدروس الخصوصية علي أنه وباء تعليمي مجتمعي، بكل ما يعني هذا من أبعاد وأخطار.