الدكتور أحمد درويش واحد من ألمع الوزراء المعنيين بمطاردة البيروقراطية في بر مصر، والمراقبون الذين يتمتعون بحيادية، وعدم الميل عن هوي في نفوسهم، يشهدون للرجل بأنه خلع رداء الاهمال والرعونة في الجهاز الاداري. وهو ينسب له أفضال كثيرة في مجال اختزال الخدمات الحكومية المتعلقة بمصالح الجماهير، ولا يزال يكافح من أجل تبسيط وتيسير هذه الاجراءات، وقد ظهرت النتائج سريعا علي مستوي خدمات كانت أقرب الي الطلاسم والكهنوتية التي كان يشعر الناس في بلدي أنها من أسرار بسطاء الموظفين المنوط بهم تقديم خدمات جماهيرية، فتشعر أنك في مواجهة ستار كثيف من خيوط العنكبوت، يلتف حولك بطلبات وتوقيعات ما أنزل الله بها من سلطان، وموظف يسعي للفتك بك حتي يطرحك أرضا. ولا أريد أن أضرب أمثلة حتي لا تتحول القضية، إلي معاناة شخصية، ذاتية، بل أترك كل قارئ أن يتذكر من رحلته العامرة ما يؤكد ذلك..الصورة الآن تتبدل، وتتغير إلي الأفضل..ورغم كل هذا عندي الجرأة لأن أسأل، وحتي أنفي عن نفسي أني ما جئت بابك مادحا.. أسأل: لماذا لا نفي بما نعد؟ لماذا أصبح عادياً جداً أن نقرأ في الصحف تصريحات وردية، ثم ننتهي إلي لا شيء.. تماماً مثل زبد البحر؟ ولو أننا تعلمنا أن نسجل كل تصريح يهمنا ولو حتي في ذاكرتنا المجهدة، ثم نعيد تذكير بعضنا البعض بما قلنا وبما أطلقناه من وعود، لربما كان لنا شأن آخر، ولربما نفذنا وعودنا قبل أن يأتي صاحب ذاكرة قوية ليذكرنا بما نسيناه، وربما أغفلناه عن عمد أو حسن قصد! من التصريحات التي لا تنسي، لطرافتها، وأهميتها، وتماسها مع السواد الأعظم من الناس، أولئك الذين يقضون مصالحهم بأنفسهم ولا يعتمدون علي صبيان لتخليصها، تصريح توقفنا ذ كما توقف الكثيرون ذ أمامه بسبب طرافته وأهميته أيضا.. حتي أنني تنبهت للخبر المنشور وقتها صفحة أولي في الصحف السيارة، من ضحك صديقي علي المقهي، ممسكا بالجريدة الصباحية وهو يقهقه عاليا، بشكل أزعجني وأزعج الجالسين يحتسون الشاي ويدخنون النرجيلة في هدوء، بل لاحظت أنه أزعج بعض المارة؛ فرفضوا أن يقرؤونا السلام، ظنا منهم وبعض الظن اثم أننا ندخن حجارة مغمسة! خطفت الجرنال من ايد صاحبي وهو يشير إلي باصبعه الذي راح يكوره في الهواء قبل أن يتوقف أمام خبر صغير..وما أن التهمت عيناي الخبر سريعا، حتي ألقيت رأسي إلي الوراء، واضعا لي الشيشة أمامي..واستسلمت لضحكة كاد القهوجي أن ينطرنا خارج المقهي بسببها. الخبر كان يقول أنه تم اعتماد مبلغ كبير من المال مئات الآلاف من أجل تدريب الموظفين القائمين علي أمر تقديم الخدمات الجماهيرية في الدولة، علي الابتسامة في وجه أخيه المواطن التعيس! كان الخبر صادراً عن مسئول كبير، وأطلقه منذ أكثر من أربع سنوات كاملة ( تاريخ الخبر مايو 2006) وقيل أنه سيتم تدريب الموظفين علي استقبال المواطن بالابتسامة الحلوة عند بحث طلباتهم أو أثناء تنبيه المواطن باستكمال حزمة أوراقه الحكومية، ومعظمها أوراق تنم عن بيروقراطية وتعقيدات لا فائدة حقيقة منها، ورغم أننا تناولنا الخبر بالابتسامة ونحن مدربون عليها، خاصة ونحن نقرأ أن تدريبات الموظفين علي الضحكة الرايقة، سوف يتكلف أربعمائة وثمانين ألف جنيه، أي نصف المليون تقريبا، فإننا انتظرنا طوال ما مضي من وقت حتي نقرأ تصريحاً آخر بالصوت والصورة لموظف وهو " يقهقه" أمام مواطن جاء يقضي خدمة حكومية، ولكن من الواضح أن العملية صعبة جدا بدليل أننا لم نشاهد موظفاً يبتسم حتي الآن. ولم ينجح المسئول في اضحاك موظفيه.. ولا حتي بالزغزغة! وأنا أطالب الدكتور أحمد درويش بصفته وزير التنمية الإدارية، بسرعة تفعيل هذا القرار الذي سيغير وجه الحياة البيروقراطية، وأشهد أن إجراءات التبسيط وهي غير التقسيط تشهد انفراجة في كثير من الخدمات، ونحن أصبحنا أكثر قوة علي التعامل معها، ولكن ماليس في استطاعتنا ويفوق تحملنا هو هذا العبوس من جانب بعض الموظفين، حتي أنني حاولت ذات مرة أن أصلح بين أخت موظفة وزوجها، بعد أن استقبلتني بتكشيرة ارتعدت منها، وعرضت أن أمنح بعض الوقت لاعطاء دروس خصوصية لأبنائها بشرط مايكونوش علمي رياضة ولكن الأخت الموظفة نهرتني بشدة ولكنها عادت فسامحتني شاكرة طيب مشاعري، ولكنها فعلت هذا وهي أكثر تكشيرا.. ثم اعترفت لي اعترافا اعتبره خطيرا حينما قالت: إنها لو ابتسمت فإن المواطنين هايطمعوا فيها.. والطلبات هاتكتر! وفي السياق فإنني أتذكر الآن سر أكثر خطورة، قاله لي صديقي الكبير الساخر الراحل يوسف عوف عندما سألته: انت منين بتجيب الض حك ده كله؟ قال قبل أن يضحك: أصلي عشت نص عمري لا أضحك.. انت نسيت اني كنت «موظف»!.. والآن هل يفعلها دكتور أحمد درويش؟.. وكل الحب والتقدير لكل موظف شريف.. كادح.