يحمل أستاذي الكاتب العربي الكبير الأستاذ جهاد الخازن في قلبه حباً فطرياً مضاعفاً لمصر، وهو يأتي إليها مرتين أو أكثر كل سنة، حتي لو من دون ترتيب لمجرد الزيارة ولقاء الأحبة، أمضيت طوال الأسبوع الجاري معه وهو سيغادر القاهرة مساء اليوم تاركاً لدي بعض الانطباعات عن رؤية محب لمصر عنها وعن المصريين، رأيت ضرورة تسجيلها وعرضها. مازال الخازن صاحب العمود اليومي الشهير "عيون وآذان" في صحيفة "الحياة" يري أن مصر تقود الأمة العربية دائماً، وحال الأمة من حالها فإذا نهضت تحسن حال الأمة وإذا مرضت دخلت الأمة غرفة الإنعاش. وهو له وجهة نظر في مسألة "الدور المصري" وذكّرني كيف كانت مصر عندما تنادي "يا عرب" يخرج مائة مليون عربي إلي الشوارع ليلبوا النداء. ونبهني إلي أن الزمن تغير: "الآن هناك 22 دولة غربية كل منها "تفتكر حالها" دولة عظمي". كانت طائرة الخازن وصلت مطار القاهرة متأخرة ثلاث ساعات فدخل إلي الفندق بعد منتصف الليل ليجد حفل عرس فخماً ضخماً وشاهد الملابس الإيطالية والفرنسية والمجوهرات من كل دول العالم والناس ترقص وتغني والسعادة غامرة، بات ليلته وهو يعتقد أن البلد تغيرت حاله، وأن المصريين صاروا أكثر سعادة، وأن أحوالهم تحسنت خلال الشهور الأربعة التي غاب فيها عن القاهرة. وأن ما يقرأه في الصحف وما يشاهده في الفضائيات مجرد مبالغات أو "تسخين" لأحوال باردة لإرضاء القارئ أو المشاهد، في اليوم التالي ركب السيارة واتجه إلي مكتب "الحياة" حيث كنت انتظره، وفي الطريق شاهد مصر أخري، ومصريين آخرين، لم ينزعج من الزحام فهو تعود علي حال القاهرة التي يعتبر أن زحامها "عشوائي" علي عكس الزحام في لندن أو نيويورك أو حتي الرياض حيث الزحام "منظم". إلا أن الرجل لاحظ زيادة في حجم "التوسع العشوائي" ما انعكس علي سلوك الناس ومستوي معيشتهم. يري الخازن أن معضلات مصر صعبة، وأن أي حكومة صارت غير قادرة علي حلها "طالما بقيت نساء مصر أكثر خصوبة من أرضها". وما دام المصريون يعيشون علي أقل من عشرة في المائة من مساحة بلدهم، ولفت إلي أن أي بلد في العالم "لا يتقدم بالأغنياء أو الفقراء" فالأغنياء أكثر حرصاً علي أموالهم ويريدون دائماً الحفاظ عليها أو زيادتها، أما الفقراء فهم يلهثون وراء لقمة العيش، ونبه إلي أن الطبقة المتوسطة "هي عماد التقدم في أي مجتمع" وأن تلك الطبقة في مصر "عصرت" ما بين الأغنياء والفقراء. بدا الخازن منزعجاً من أحوال التعليم في مصر وهو قالها عن اقتناع: "إذا لم ينصلح التعليم فلن ينصلح حال مصر وبالتالي الأمة العربية"، ولم يفته التعليق علي الفساد وهو لاحظ ارتفاع وتيرة النشر في الصحف والكلام في الفضائيات عن الفساد والفاسدين، وأشار إلي أن مصر تحتل مركزاً سيئاً في مؤشر الفساد العالمي، وأبدي استغرابه عن تباطؤ مكافحته. "علي رغم أن الحكومة والحزب الحاكم يمكن أن يحققا شعبية وينالا قدراً من رضا الناس إذا ما تبنيا حملة جديدة لمكافحة الفساد" وهمس لي: "صعب علي الدولة أن تكشف كميات كبيرة من البترول تحقق الغني للمصريين وصعب عليها أن تدير استثمارات وأموال ضخمة لتعمير الصحراء لكن سهل عليها وممكن جداً أن تكافح الفساد إذا أرادت". لم يفتني في نهاية الحوار الممتع أن أهمس معه أيضاً "إنهم يتصارعون علي كعكة غير موجودة أصلاً" فابتسم ورد: "الكعكة موجودة ولكن حجمها صغير جداً علي عكس دول أخري الكعك فيها كثير وحجمه كبير والفساد قد ينهش فيه لكن قدرته علي الاستيعاب تبقي محدودة فيجد الناس في هذه الدول بقايا تحقق لهم حياة فيها قدر من الرفاهية". نظرت إليه وسألته: "رفاهية"؟ ولم يرد.. وانتهي الحوار وأنا أردد "رفاهية.. رفاهية.. رفاهية" مازلت أتذكر هذه الكلمة.