الأفراح في الأحياء الشعبية كانت مصدراً أكيداً للبهجة، وأيضاً مصدراً محتملاً للخطر. كان الفرح يقام في الحارة، يحضره من وجهت لهم الدعوة ويحضره أيضا بغير دعوة غرباء عن الحي وعن أسرتي العروسين، ولكن المناسبة المفرحة بالطبع تحتم الترحيب بالجميع، وتثور مشاكل صغيرة يتم حسمها علي الفور لكي لا يتعطل الفرح أو تتعكر الفرحة، لم تكن الكهرباء قد دخلت كل الأحياء لذلك كان يتم إضاءة هذه الأفراح بالكلوبات، وفجأة في أعلي درجات الانسجام والفرحة، تري كرسيا يطير في الجو ليصطدم بأحد هذه الكلوبات فيكسره ويطفئ نوره، وتتوالي الكراسي طائرة في الفضاء وقد تحولت لقذائف تستهدف بقية الكلوبات والعروسين والفرقة الموسيقية والمدعوين فترتفع الصرخات وتسيل الدماء. هذا هو الأصل في ظهور هذا التعبير الشهير (كرسي في الكلوب) الذي نصف به شخصا ما أو جماعة ما، قامت بعمل مفاجئ من شأنه القضاء علي فرحة ما أو مشروع مفيد أو إنجاز يلبي حاجة البشر. كثيرة هي الليالي التي عدت فيها إلي البيت ممزق الثياب، وآثار اللكمات والكدمات علي وجهي فتعرف أمي علي الفور أنني كنت حاضرا في فرح. وبالرغم من أن أصحاب الفرح عادة كانوا يتخذون احتياطات أمنية كثيرة لحماية أفراحهم من التكسير إلا أنها نادرا ما كانت تنجح. اختفت الكلوبات، وغادرت الأفراح الشوارع والحواري وأسطح البيوت بعد أن تحولت إلي صناعة راسخة منضبطة ذات قواعد، قاعات في الفنادق والنوادي تناسب قدرات كل الناس، هي صناعة بالفعل، وأهل العروسين مطالبون فقط بأن يقدموا العريس والعروسة والمدعوين، فيما المسئولون عن القاعة ملتزمون بتقديم كل عناصر الفرح والفرحة، ما عدا عنصرا واحدا اختفي تماما وهو هؤلاء الذين سيقومون بتكسير الفرح، فهل اختفت عند البشر تلك الدوافع التي كانت تدفعهم قديما لتدمير الأفراح؟ لي صديق مثقف يتسم بالرقة والعذوبة، الطريف أنه عندما كان شابا صغيرا، كان يجوب الأحياء الشعبية هو وأصدقاؤه باحثين عن فرح للاستمتاع بتكسيره، عندما سألته مندهشا: لماذا؟ أجاب: لماذا؟ الفرح اللي ما يتكسرش ما يبقاش فرح. قالها في عفوية وبلاغة، مجيبا عن السؤال الذي حيرني طويلا بالفعل، الفرحة عند بعض الناس ينتج عنها بالحتم رغبة قوية عند آخرين للقضاء عليها، الانفعالان متلازمان، لا وجود لأحدهما في غياب الآخر. إن غياب الفرح عن الحارة وانتقاله إلي داخل أسوار الفندق والنادي، نتج عنه ظهور عنصر جديد هو السلطة المتمثلة في كل العاملين في المكان، سلطة المسئولين عن الفرح، إنها السلطة البديلة لسلطة القانون والدولة، مكسرو الفرح لن يصطدموا بالمدعوين وأهل العروسين المسالمين فقط، بل بسلطة قوية قادرة علي أن توقفهم في اللحظات الأولي التي يمارسون فيها عدوانهم خاصة بعد أن أصبح لكل مكان عام في بلادنا طاقم أمني من الرجال المدربين علي ممارسة العنف، أصبح من النادر تكسير أي فرح، ولكن الرغبة في تكسيره ستظل إلي الأبد تملأ قلوب بعض الناس، غير أنهم لن يعبروا عن رغباتهم بأفعال واضحة لاستحالة ذلك، لذلك ستراهم يكتفون بالكلمات المسممة يتبادلونها همسا أو بصوت مرتفع وقد امتلأوا بالتعاسة والقهر لفرحة من يحيطون بهم. الديمقراطية فرحة، الاستقرار السياسي والاقتصادي فرحة، حقوق الإنسان فرحة، حقوق المرأة فرحة، لذلك فمن الطبيعي أن تجد من يعتدي عليها مسلحا بالشعارات الكاذبة والمفاهيم الخاطئة وهذا دليل علي تلازم الفرحة مع الرغبة في القضاء عليها. من المهم أن نفرح، و الأكثر أهمية أن ندافع عن أفراحنا، ليس لهذه الحكاية صلة بتكسير فرح مهرجان السينما في المركز الثقافي الفرنسي.