تصاعدت في الفترة الأخيرة حدة التوترات بين دول حوض نهر النيل، وجاء إخفاق مؤتمر شرم الشيخ في الرابع عشر من إبريل الجاري في التوصل إلي تفاهمات حول سبل التعامل مع الملفات المتصلة بكيفية إدارة وتوزيع مياه النهر وإقامة المشروعات علي منابعه، ليمثل تتويجا لخلاف لم تتمكن الاجتماعات الثلاثة الأخيرة من تطويقه بما يخدم مصالح الجميع، بل إن ما تخلل هذا المؤتمر من نقاشات وما أعقبه من تصريحات كشف عن أن الملف برمته قد دخل منعطفاً بالغ الخطورة لم تتضح بعد معالم ما يخفيه وراءه من مسارات، الأمر الذي يتطلب تحركا جادا وسريعا للتعامل ليس فقط مع النوايا المعلنة، والتي يعكس إصرارا من قبل دول المنبع علي المضي قدما في توجهها لتوقيع اتفاقية إطارية جديدة في منتصف الشهر المقبل دون دولتي المصب، ولكن أيضا مع إمكانية ترجمتها إلي واقع ملموس بما يعنيه ذلك من تهديدات ومخاطر وتحديات لمصر، يمكن إجمال أبرزها فيما يلي: 1- إن المساس بحصة مصر من مياه نهر النيل يشبه بشكل كبير وضعية المساس بتدفق الدماء من القلب إلي سائر أعضاء الجسد وما يستتبعه ذلك من اختلال كامل في أدائها لوظائفها، خاصة أن مصر لا تملك موارد مائية أخري تذكر وتعتمد علي النيل في سد ما يزيد علي 95% من احتياجاتها المائية. 2- في الوقت الذي تتركز فيه الكتلة السكانية الكبري في مصر حول ضفاف النهر التي شهدت قيام الحضارات القديمة، بدأت قضية نقص المياه تطرح نفسها علي الساحة؛ حيث أشارت الدراسات إلي أن حصة مصر الحالية من مياه النهر بواقع 55.5 مليار متر مكعب لم تعد تواكب معدل الزيادة السكانية بما يعنيه ذلك من الحاجة إلي زيادتها بمقدار 11 مليار متر مكعب، وليس التقليل منها كما تذهب إليه توجهات دول المنبع. وبعيدا عن الإسهاب في توضيح حيوية مياه نهر النيل بالنسبة لمصر، وحقوقها التاريخية الثابتة، والاتفاقيات الدولية التي تدعم موقفها القانوني، وكلها أمور تم التعرض لها بالتفصيل في الآونة الأخيرة، فإن هذا المقال يسعي إلي التركيز علي حقيقة أنه إذا كانت التسوية السلمية للنزاع تمثل الطريق الوحيد العملي المتاح للتعامل مع هذا الملف، فإن ذلك يتطلب تبني مقترب للتوفيق بين مصالح الأطراف المعنية. وعلي الرغم من أن هذا المقترب يمثل المسار الأفضل والأكثر واقعية في التعامل مع الواقع الحالي، فإنه يفرض حشد الجهود والتوظيف المتناسق للعديد من الآليات في وقت واحد، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلي ما يلي: 1- ضرورة تكثيف الاتصالات الثنائية مع دول المنبع علي أن يكون المدخل الرئيسي التركيز علي المصالح المشتركة وكيفية تحقيقها، وقد يكون في مقدمة هذه المصالح التحدي المشترك لدول الحوض والمتمثل في المخاطر المتزايدة لتلوث المياه علي الصحة بشكل ينذر بمزيد من الأمراض في حوض النهر في المستقبل القريب، ويجعله مصدر تهديد بدلا من أن يكون شريانا للحياة، وللتدليل علي ذلك فإنه يكفي الإشارة إلي حالات الإصابة بالكوليرا التي تم تسجيلها في السودان صيف عام 2006، وظهور الوباء في نفس الفترة الزمنية في كل من كينيا وأوغندا وتنزانيا وفقا لما كشفت عنه بعض المنظمات الدولية؛ ومن هذا المنطلق تتضح وحدة المصير لدول حوض النيل باعتبارها القاسم المشترك الذي يجب أن يجمعها وليس المصالح الفردية التي قد تتم استثارتها لأغراض وقتية. 2- محورية التركيز علي المخاطر المحتملة للطرح الجديد لملف مياه النيل والذي يتضمن عدم الاعتراف بالاتفاقية الموقعة بين المملكة المتحدة ومصر عام 1929 باعتبارها موقعة من قبل هفوة استعمارية لا تعكس إرادة الدول الإفريقية المستقلة ومصالحها وحقوقها الاستعمارية، في ضوء حقيقة أن الأمر قد يتجاوز موضوع مياه النيل، ويمتد إلي مبدأ قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار، وهو المبدأ الذي كرسه ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، وتبناه البيان التأسيسي للاتحاد الأفريقي الذي خلفها، للحفاظ علي الاستقرار في القارة والتي تم رسم ملامح حدودها في مؤتمر برلين عام 1885 من قبل الدول الاستعمارية لتجنب الصراعات بينها علي مناطق النفوذ. وإذا كانت الأوضاع الناتجة عن تلك الحدود لم تستجب بشكل دقيق لطبيعة التركيبة السكانية والعرقية في القارة، فإن الإبقاء عليها عكس توجها حكيما لتجنيب دول القارة الانخراط في صراعات علي الحدود تبعدها عن جهود التنمية وبناء الدولة، كخطوة أولي في طريق الوحدة أو الاتحاد الذي تتلاشي مع أي منهما الآثار السلبية للحدود الموروثة. 3- أهمية تذكير الدول المعنية بالأهداف المشتركة التي دفعت الدول الإفريقية إلي الانخراط في مشروعات قارية تهدف إلي تحقيق الوحدة والتنمية، بشكل يمكن القارة من أن تفرض نفسها علي الساحة الدولية كقوة مؤثرة وفاعل رئيسي، وإذا كان هذا الهدف قد راود مخيلة الجيل الأول من قادة الاستقلال، فإنه لا يزال يطرح نفسه وبقوة من خلال مقترح إنشاء الولاياتالمتحدة الأفريقية، والذي يتطلب الوصول إلي تحقيقه توحيد الجهود لتحقيق المصالح المشتركة، وتسوية الخلافات التي تمثل إهدارا غير مجد للطاقات، ووأد الصراعات بدلا من تغذيتها. وبين الطرح المتصل بضرورة التوصل إلي اتفاق منصف يسمح بإنشاء المزيد من مشاريع الري والطاقة والآخر الذي يؤكد علي الحقوق التاريخية الثابتة، فإن المصلحة المشتركة تقضي بالتوصل إلي طرح آخر يتضمن في طياته آليات للتقليل من فاقد المياه في دول المنبع، بما يعنيه ذلك من تضخيم الكميات المتاحة والقضاء علي المشكلة من جذورها. 4- التأكيد علي حقيقة أن دول حوض نهر النيل ستظل كذلك بحكم الحقائق الجغرافية، بما يعنيه ذلك من ضرورة التفاهم المشترك وتنقية العلاقات بينها باعتبار أن ذلك يمثل حقيقة ثابتة مقارنة بأية تحركات أخري من قبل دول خارج الحوض تدفع في اتجاهات عكسية لتحقيق مصالح أخري لا تنعكس بالضرورة إيجابا علي الدول المعنية، ويستتبع ذلك أهمية وضع مخطط واضح للتحرك المصري في القارة بصفة عامة، وتجاه دول حوض النيل بصفة خاصة، يسعي إلي إعطاء المزيد من الثقل للوجود والدور المصري، من خلال مشروعات مشتركة وتفاعل جاد، يتخطي حدود المعونة الفنية لأفريقيا والمتمثلة في إرسال الخبراء إلي القارة من خلال صندوق تابع لوزارة الخارجية، خاصة أن الخبراء الوافدين من خارج القارة قد زاد عددهم وتنوعت تخصصاتهم بتنوع الأهداف التي قد لا تكون علي نفس المستوي من الصدق. 5- الإدراك التام بأن الطرح الجديد تحت مسمي اتفاق منصف يمثل تحديا خطيرا ليس فقط لمساسه بأمن وسلامة ومستقبل دولتي المصب، ولكن أيضا لما قد يستتبع من تطورات تمس حقيقة وجود وحدود الدول الإفريقية كافة، ويعني ذلك أن التحرك المصري في التعامل مع هذا الملف يلزم أن يكون متكاملاً، بشكل يوظف آليات الاتحاد الإفريقي، خاصة لجنة الحكماء التابعة للاتحاد، دون استبعاد فكرة التحكيم كوسيلة مثلي لتسوية النزاعات والتي حققت نتائج في الماضي وآخرها تسوية الخلافات الحدودية بين كل من ليبيا وتشاد.