لا يحتاج المرء إلي جهد كبير يرصد حجم الكذب والنفاق والخداع الذي يدور حولنا، أو يدرك أنه عاش "كذبة" كبيرة، أو أن بعض من حوله صاروا لا ينطقون كذباً فقط وإنما يتنفسونه، وعلي ذلك فليس غريباً أن تصبح الحياة بهذا اللون وذلك الطعم. كتب يوسف السباعي روايته الرائعة "أرض النفاق" عام 1949 وكان لافتاً أنه أهدي الرواية لنفسه ساخراً من كل الكذابين والمنافقين، ورغم أن الرواية تحدثت عن المجتمع المصري في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي في إطار خيالي، إلا أنها "ظلت واقعية" بل يبدو أنها صارت أكثر واقعية الآن، أكثر من أي زمن مضي. تحولت الرواية إلي فيلم سينمائي العام 1968 بطولة فؤاد المهندس وشويكار فكان فيلماً من نوعية "الكوميديا السوداء" التي تجعلنا نضحك من شدة الألم والأسي. مات السباعي قتيلاً في حادثة مروعة في قبرص في 18 فبراير 1978 وهو الرومانسي الحالم، وبقي الكذب والنفاق بل زاد. وكأن الزمن أراد أن يثبت أن المكان ضاق علي الحلم في مواجهة البرغماتية ولم يعد يسع الصادقون بعدما تفشي الكذب ولم يعد يستوعب الرومانسيون أصحاب الأهداف النبيلة إذ احتله العمليون أصحاب الأهداف الدنيئة. ختم السباعي الرومانسي روايته "بين الأطلال" بجملته الخالدة التي أبكت في زمن مضي أصحاب القلوب والمشاعر الصادقة: "أيها البين مهما يحل بينك وبين من أحببتهم فلن يستطيع أن يحول بين روحك وروحهم، إن شمائلك ومعانيك محفورة في وجدانهم مهما تبعد ومهما تهجر.. حين تري قرص الشمس الدافئ في المغيب.. سنذكرك". كتب الرجل الرومانسي كلامه واصفاً حال بطلة روايته التي أخلصت حتي بعدما مات الحبيب. المؤكد أن ثقافة العصر وسلوك بعضنا يجعل من عبارة السباعي في ختام روايته مادة للسخرية أو كأنها عبارة كتبت بلغة لا يفهمها أهل هذا الزمان. ألّف السباعي 22 مجموعة قصصية و16 رواية، وهو سطر عبارته في "بين الأطلال" عام 1953 أي بعد أربع سنوات من روايته "أرض النفاق"، إلا أن الرابط بينهما لا يمكن تجاوزه.. فالرافض للكذب والرافض للنفاق ظل علي حاله: رومانسياً حالماً. في "أرض النفاق" رصد السباعي أحوال المجتمع المصري والعربي، ففضح كل أشكال الكذب والعوار والجهل ولخص فكرته في العبارة: "أرض مليئة بالنفاق والكذب والرياء وحب الذات والمصالح الشخصية.. فالكل يكذب وينافق من أجل مصالحه". رأي أحوال الناس وسلوكهم ووجد ما لا يسر، ولم يجد أمانة ولا ضميراً ولا صدقاً ولا وفاء، إذ استبدل الناس تلك القيم النبيلة بالرياء والجبن والندالة. لم يجد للمنطق معني أو وجود ولم يعد لديه غير الخيال، وتمني وجود بعض حبوب الشجاعة والمروءة والوفاء والصدق وعدم النفاق، وألقي بخليط الأخلاق في النيل وشرب الناس فانقلب الحال وسادت الصراحة، وبدأ الناس يصارحون بعضهم بما كان مخبأ في النفوس وما كان يدير في الخفاء، وكتب في نهاية الرواية: "أخلاق، شجاعة، نزاهة، صدق، إخلاص هذه كلها أشياء موجودة في نفوسكم ولكنها راقدة في غفوة، فقد علاها الصدأ من طول الركود، شيء واحد هو الذي يحركها وهو أن تدعو بإطلاق قول القائل "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، لا تفعل شيئاً إلا وإذا تذكرت كيف أن يفعله غيرك، ضع نفسك دائماً في مكان سواك إذا أردت أن ظلمك غيرك فاظلم، إذا أردت أن يقسو عليك الناس فأقسُ عليهم، وإذا أحببت أن تهان فقدم الإهانة". بعد سنوات من كلام السباعي لم يتعلم الناس بل زاد الجهل وتفشي، وانعدمت ثقافة الحواس ولم يعد هناك فرق لدي البعض بين دار الأوبرا وشقة تمليك وبين المال الحلال والحرام وبين ما صنعه بنفسه وبين ما "لهفه" من غيره. لكن السباعي الذي مات قبل أكثر من ثلاثين سنة كتب أيضاً العبارة التي يبدو أنها أصبحت تصلح أن يطلقها كل حالم بمجتمع نظيف أو من أدرك أنه عاش كذبة كبيرة وعاني نفاقاً حقيراً عندما وجه كلامه الي الكذابين والمنافقين قائلاً: "لقد تعبت.. حقاً تعبت.. بصقة علي دنياكم، فما صادفت فيها إلا كل أجوف زائف عاطل، بصقة عليها وعليكم، أيها الحمقي الأشقياء غداً ستخلدون ذكراي وتشيدون لي قبراً بين قبور العظماء". اللهم لا تجعلنا من الكذابين أو المنافقين.. آمين.