هل يمكن اعتبار المسرح المعني بالتراث مسرحاً يدير وجهه للمستقبل؟ هل هو مسرح يتجه نحو الماضي ويغرق فيه ويعيد إنتاجه منفصلاً عن الحاضر والمستقبل؟وهل تنقطع صلة التيارات المسرحية الحديثة بالتراث باعتباره خصماً أبدياً ينبغي التخلص منه والقضاء عليه نهائياً؟! للإجابة عن هذه التساؤلات ينبغي أن ننحي جانباً المفاهيم الخاطئة التي تري أن التراث يعني «الراسخ في الماضي» لأن التراث هو الذاكرة الحية، الذاكرة المملوئة بالوقائع والأحداث والصور والأصوات، ومن المدهش أن يري البعض - بثقة تدعو للدهشة - أن التراث ماض مضي وذهب إلي غير رجعة.. إلي أين مضي؟ وإلي أين ذهب؟ إن التراث في معناه الحقيقي - هوالحاضر، كما قال الدكتور فؤاد زكريا «إن الصراعات الحقيقية حول التراث هي في الواقع صراعات حول الحاضر». ولعل هذا هو ما دفع المسرحي المغربي «عبد الكريم برشيد» إلي القول بأنه «لا وجود لتراث خالص، تراث مستقل ومنعزل عن الورثة الحقيقيين، وعن الفاعلين فيه والمنفعلين به، إن التراث هو نحن، وهو يحيا بحياتنا، ويموت بموتنا وهو يتسع باتساع اهتماماتنا، ويضيق بضيق قضايانا ومحدوديتها» ويمكن أن نضع يدنا علي ثلاثة مواقف أساسية للتعامل مع التراث. الأول يذهب إلي ضرورة القطيعة مع التراث باعتباره يتصف بالجمود والثبات ولا دور له سوي تكبيل وإعاقة كل من يتطلع للمستقبل، ولا يدرك أصحاب هذا الموقف خطورة طرحهم هذا.. فلو قاطعنا تراثنا فمن أين سننطلق؟ ومن أي نقطة سنبدأ وفي أي نقطة سننتهي إذا القينا وراء ظهورنا تراثاً يحمل هويتنا القومية وثقافتنا التي تشكلت علي نحو فريد عبر آلاف السنين نسيجاً مغزولاً بابداع من الفرعونية والقبطية والإسلامية؟ إنها الثقافة التي تضرب جذورها في أرض الوادي والتي من شأنها أن تحمينا من مخاطر الاقتلاع والتشتت بفعل رياح العولمة والنظام العالمي الجديد.. أما الموقف الثاني فهو الموقف الذي يتبناه السلفيون والذي يدعو إلي إعادة إنتاج التراث كما هو حتي نكون ونحن في الحاضر - صورة مكررة من التراث في الماضي لنغرق في خطاب ماضوي بعيد عن روح العصر ومتطلباته، وهذا الموقف يتخذ من التراث موقف التقديس، وهو لا يمكن أن يعطي سوي موروثاً جامداً وثابتاً لا يغير ولا يتغير، ولا يؤثر ولا يتأثر. أما الموقف الثالث فيتمثل في العلاقة الجدلية مع التراث باعتباره ليس إيجابياً في إجماله ولا سلبياً في كليته وإنما هو مزيج فريد تتعدد أبعاده ومستوياته وتتنوع قراءاته وتناولاته، وهو يحتاج إلي رؤية علمية شاملة وجدلية وغير مسجونة داخل أطر أيديولوجية.. ولعل هذا الموقف هو الأكثر ملائمة للتحديات التي تواجه شعوباً مثل شعوبنا، جذورها ضاربة في عمق التاريخ. وهنا تجدر الإشارة إلي انحياز عدد من المسرحيين الكبار حول العالم إلي الالتفات إلي المنابع الأصلية للمسرح انطلاقاً من أن المسرح خرج من قلب الطقوس ثم مسرح الحياة اليومية.. بدأ متسامياً بعالم الميتافيزيقا ثم انحدر إلي عالم الماديات والتفاهات، والمسرح المعاصر يبحث من خلال التجريب عن العودة إلي صيغته الأولي مسرح / طقس ولكن دون إهمال تقنيات العصر. وهذا التصور يخضع لمقولة أستاذ المدرسة الحديثة في تاريخ الأدب جوستاف لانسون من أنه «في الفن والأدب لا شيء يأتي من لا شيء». وكيف ينكر هؤلاء الذين يرون في تراثنا ماضياً مات واندثر محاولات توفيق الحكيم ويوسف إدريس وعلي الراعي وعز الدين المدني وعلي عقلة عرسان وسعدالله ونوس ورياض عصمت وعبدالكريم برشيد في الانطلاق للمستقبل عبر الجدل والتفاعل الخلاق مع الموروث الذي يشكل هويتنا بالدعوة إلي الرجوع إلي الذات والتراث والذاكرة الجمعية. إن مشروع الجدل مع التراث هو مشروع مستقبلي بوسعه أن يضيء حياتنا المسرحية ويفتح إبداعاتنا علي مسرح أصيل ومتماسك يقدر علي استلهام الماضي والحاضر للتوجه إلي المستقبل بكل ثقة وإصرار دون انغلاق ورفض لمنجزات الآخر ولكن بالانفتاح الواعي علي أحدث التيارات والاتجاهات العالمية، فاستلهام التراث لا يعني الانكفاء علي الذات ورفض الآخر.. لقد عاد توفيق الحكيم في محاولاته المسرحية إلي المصدر القرآني والمصدر الفرعوني.. وعاد ألفريد فرج وسعد الله ونوس والطيب الصديقي ويسري الجندي إلي المصدر التراثي، وهناك العديد من التجارب التي تستلهم المصدر الصوفي أبرزها أعمال صلاح عبدالصبور الذي خرج بالتصوف من إطار الشعر الذاتي إلي المسرح الدرامي الشعري في رائعته «مأساة الحلاج»، أما فيما يتعلق بالمصدر التاريخي فتأتي أعمال أبو العلا السلاموني وعز الدين مدني.. لقد بحث توفيق الحكيم في «قالبنا المسرحي» عن مستقبل لمسرح يبحث في الأنا دون أن يغفل الآخر/ الغرب.. وهذا يوسف إدريس في دراسته نحو مسرح عربي يطرح المسرح الشعبي المتمثل في السامر.. أما د. علي الراعي فقد اهتم بدراسة صيغ الارتجال المصرية لكونها أصيلة وغير مستوردة من الغرب، لذا دعا إلي خلق مسرح مرتجل يهتم بلغة العرض التي يشترك الكل في إبداعها وعرضها بشكل ارتجالي بعيدًا عن النص المكتوب سلفًا..