أتحداك أن تقاوم هذه البيتزا الشهية وعليها «طن» من الجبنة الموتزاريللا الساحرة، ثم أتحداك أيضا لو قاومت فطيرة السجق بالجبنة الشيدر، علي الطريقة المصرية. وتخيل يا عزيزي ويا عزيزتي الباتيه الساخن بلهب الفرن وبداخله الجبنة السائحة، وليس المسبب في هذه التحديات أن الصيام انتهي اليوم، أطول صيام مدته 55 يوماً، وأن عيد القيامة نحتفل به اليوم بإدارة ظهورنا لكل أطعمة الأمس النباتية وليعد كل منا إلي ما يحبه ويفضله، خصوصا اللحوم والجبنة. وبالنسبة لي فدائما توجد الأجبان في أحلامي الغذائية، وأعرف أنها ليست أحلامي وحدي وإنما الملايين الذين يحبون هذا النوع من الطعام الذي من الممكن كتابة كتاب عنه منذ الطفولة وسندويتشات المدرسة.. وحتي آخر العمر، وأزعم أن علاقتنا كبشر تطورت بالجبنة تحديدا بعد صعود وسيطرة زمن الرأسمالية علينا بفضل شركات الأطعمة الجاهزة العابرة للقارات والمحيطات، خصوصا تلك التي تخصصت في صناعة فطيرة البيتزا الإيطالية المنشأ ثم ولدت منها أنواع أخري مختلفة الأحجام والأشكال والمناظر، وكلها تعتمد علي «الجبن» كما يكتب بالعربي الفصيح. وشركات الأطعمة هذه لم تنجح إلا بمؤسسات الدعاية والإعلان القوية، سواء محلية أو دولية والتي تلقت «الأوردر» وانطلقت هي الأخري في ابتكار أساليب وأشكال من الدعاية للبيتزا والفطير والدجاج والصلصات إلخ.. لدرجة أحدثت انقلابا في رأيي في علاقتنا بما نأكله، فأدخلت الحواس الأخري شريكا في هذا وليس حاسة التذوق وحدها وإنما النظر والخيال والحلم بهذه الأشكال والألوان البديعة في اطارها الأنيق سواء كان بيتا لأسرة تحتفل أو مطعما. وأيضا لا تنسوا الصحبة في الإعلان، فدائما ما توجد صحبة، صديقة جميلة مثلا أو صديق أو حتي الماما والبابا علي رأي إخواننا الشوام.. لهذا كله تحولت علاقة المشاهد بما يأكله بفعل زيادة تأثير الإعلام وسطوته بعد صعود الفضائيات ودخول الإعلان معه يداعب هذا المشاهد الجالس في بيته منبهراً من تعامله مع عالم لم يألفه، وحده بدون رقابة أبوية أو حكومية. وبالتأكيد كسب هذا المشاهد حريات معرفية لم تكن متاحة له من قبل، ولكنه خسر بعض ما يملكه من قيم وتقاليد وثقافات متراكمة في مجتمعه كان يثق بها، ومن بينها ما يتعلق بعلاقته بالطعام الذي يأكله.. ومناسبة هذا كله تقرير قدمته قناة العربية الإخبارية مساء الاربعاء الماضي من مدينة برلين لمراسلها أنيس أبوالعلا وهو إعلامي مصري قديم وقدير، تحدث فيه عن شيوع التعامل في المطاعم والمخابز والسوبر ماركت الأوروبية مع شبيهة الجبنة وأشباه اللحوم وغيرها من المواد الغذائية، وهي مصنعات جديدة مكونة من مواد دهنية وزلال ومياه يتم خلطها وتصنيعها في معامل حتي تأخذ شكل ولون وقوام المادة الغذائية الأصلية بل وطعمها كما رأينا في الفيلم المصاحب للتقرير «في أحد مصانع ألمانيا» . وهذه المواد الشبيهة بالمواد الغذائية الأصلية تسمي جاستروميكس أو «gas Tromix» ومنها أمكن صناعة جبن شيدر ورومي وفلمنك وحتي الجبن القريش، نعم مثلها تماما لكنها خالية من أي قيمة غذائية وفي التحقيق الذي أجراه أبوالعلا مع بعض من يصنعونها قالوا إن السبب هو أننا أي البشر عموما نستهلك الكثير من المواد الغذائية التي لم يكن يوجد عليها طلب بهذه الكثرة من قبل وأن الموارد الطبيعية لاتكفي كل هذا الاستهلاك علي المواد الغذائية الأصلية وبالتالي فإن الحاجة هي أم الاختراع ولهذا لم تعد البيتزا والمعجنات وحدها تصنع من هذه المواد وإنما وصل الامر الي الألبان، ومنها اللبن الرايب والزبادي فلا هو لبن ولا توجد به فراولة أو مانجو في حالة هذه الأنواع التي يعشقها الأطفال والكبار، وإنما مجرد نكهات وخلطات 2700 نكهة ذكرها التقرير مسموح باستخدامها في دول الاتحاد الأوروبي، فهي غير مضرة للمستهلك ولكنها غير مفيدة أيضاً. والغريب أن إثارة شهية المستهلك ودفعه الي الاقبال عليها لا تعد ضمن الاضرار هنا ولهذا وصلت هذه المنتجات الي أبعد مدي في الابتكار وفي الانتشار وهو ما رأيناه عبر الشاشة في المحلات والمخابز من فطائر ومن أنواع من الخبز، ومن مواد تباع وحدها حتي المكسرات أصبحت ضمنها وشرائح اللحم.. كلها مواد صناعية بطعم وشكل المواد الغذائية. نعم الثمن أرخص بكثير، لكنها في النهاية كما يقول المراسل المحترم: تضلل المذاق لدي المستهلك، وتؤدي الي مزيد من السمنة لإقبال الكثيرين عليها لرخصها، وتعمق الفجوة بين الفقراء والاغنياء- وهذه من عندي - حيث سيحظي الاغنياء بالطبع بالمواد الغذائية الحقيقية، ويتركون لنا أشباهها! والسؤال المقلق الآن هو: هل وصلت الجاستروميكس إلي مصر أم لا؟ وهل نستهلكها بالفعل بدون أن ندري؟ وهل لو حدث هذا سوف يكتبون علي مغلفها محتواها، بالخط الذي لايقرأ أم يتركوننا علي عمانا؟ الأمر المؤكد هناك أنهم يكتبون محتويات الأغذية الشبيهة علي أغلفتها والأمر المؤكد هنا أن هذا غير مضمون لو كان قد حدث.. فهل تتلقي الموضوع قناة تليفزيونية مصرية أو برنامج قوي يجري تحقيقا مثل هذا من باب الرحمة بالمشاهدين وبالنيابة عن الجهات الرسمية التي لديها ما يكفيها وزيادة من قضايا وآلام المصريين؟!.