يبدو أننا نعيش في مصر واقعا فعليا نعرفه وجها لوجه خلال ممارستنا لحياتنا اليومية، في السكن والشراء والبيع والتحرك في الشوارع والأسواق والتعامل مع الدوائر التي تقدم لنا الخدمات الحكومية أو شبه الحكومية، وواقعا آخر افتراضيا ترسمه لنا البيانات والتصريحات التي تتداولها وسائل الإعلام نقلا بالصوت والصورة والكلمة عن مصادر الحكومة. مثلا.. نعرف من خلال حياتنا اليومية أن الوظائف الجديدة أصبحت نادرة، ليس في الحكومة فقط وإنما في القطاع الخاص أيضا، بل تزايدت أعداد الذين يفقدون أعمالهم في الآونة الأخيرة، ومع ذلك تقول لنا التقارير إن حكومتنا حققت نموا بنسبة كذا أو كذا، وأن نسبة البطالة انخفضت. كذلك نسمع بين الحين والآخر عن حل لمشكلة نقص بعض السلع المهمة لدي المواطنين بما يعني أنها أصبحت متوافرة، ونجدها مازالت ناقصة في السوق. هذه المعلومات المتعارضة أو المتضاربة تغري المراقب بالمقارنة بين الواقع الفعلي الذي نعيش فيه، نحسه ونتنفسه، وبين الواقع الافتراضي المؤقت الذي يصنعه مجتمع الندوات أو المؤتمرات واللقاءات الجماهيرية ولا يظهر إلا علي شاشات التليفزيون أو صفحات الصحف. منذ أيام تابعت حلقة ممتعة من جلسات مجلس الشعب التي أصبحت أفضل بكثير من كثير من البرامج الحوارية التي استهلكت الموضوعات والضيوف، الحلقة كانت ممتعة في الحقيقة بأبطالها بدءا من رئيس المجلس الدكتور أحمد فتحي سرور الذي أدار الجلسة باقتدار كعادته مع نجوم الحلقة الدكتور يوسف غالي وزير المالية والمهندس أحمد عز رئيس لجنة الخطة والموازنة والمستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات. الحلقة كانت تمثل قمة اللقاء بين النشاط الحكومي مع الرقابة الشعبية لمجلس الشعب، في الجلسة التي واجهت فيها الحكومة ملاحظات الجهاز المركزي للمحاسبات علي الحسابات الختامية لميزانية العام المالي المنتهي 2008 / 2009. في تلك الجلسة ظهرت لي بوضوح المسافة بين الواقع الفعلي الذي نعيشه وعبر عنه إلي حد ما تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات وشكاوي الأعضاء من الأداء الحكومي، وبين الواقع الافتراضي الذي رسمته أرقام لجنة الخطة وتعقيب وزير المالية. بداية أنا شخصيا لا أشك لحظة في سلامة الأرقام التي وردت في التقرير عن حجم النمو، وبراعة الحكومة التي كانت محل التأكيد في تجاوز سنة الأزمة المالية التي اجتاحت العالم، وبفضل من الله وبراعة الحكومة نجحنا فيما فشلت فيه حكومات عريقة في المالية والديمقراطية مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا التي عانت من النمو السلبي لاقتصادها، بينما نحن تعرضنا لأقل الخسائر بتناقص معدل النمو بنسبة بسيطة للغاية ولكن النمو بقي إيجابيا يصل إلي حوالي 4 ٪ مقابل نحو 7 ٪ في العام السابق. المدهش في تلك الحلقة أو الجلسة أن كل ما قيل فيها - من وجهة نظري - صحيح، ما قالته الحكومة صحيح، ما قاله الأعضاء صحيح، أيضا ما قاله المستشار رئيس المحاسبات صحيح، ومن هنا تبدأ أو تزيد مشكلة أشخاص مثلي لا يريدون أن يأكلوا كلاما ولا يشربون بيانات ولا يجد أبناؤهم عملا بالتقارير الإيجابية التي تصف الواقع الافترضي بأنه زي الفل، وإنما يريدون مطابقة الواقع الفعلي مع الواقع الافتراضي فتحل البركة بمعاشاتنا المتواضعة وتصبح قادرة علي حفظ ماء الوجه، ونشم رائحة الجودة، وليس ضروريا الجودة نفسها، في الخدمات التي تقدمها الحكومة. الحقيقة أنني كنت مبهورا من استخدام المنطق الجدلي في عرض الأرقام وتثبيت المستمعين وتجنب مقاومتهم عن طريق الرد المبكر علي التساؤلات الطبيعية من الأعضاء والمراقبين وإليكم بعض النماذج: أكد المهندس عز تراجع معدلات البطالة من 10.3 ٪ إلي 8.7 ٪ مستنداً إلي دراسات عن الأسرة والسكان أجراها جهاز التعبئة والإحصاء، وملفات المؤمن عليهم لدي صندوق التأمين والمعاشات، مشيراً إلي أن نسبة ال 10 ٪ بطالة ليست من إجمالي تعداد السكان في مصر وإنما من قوة العمل. وهذا يعني أن عدد المتعطلين أقل، فلا يظن أحد أن عدد العاطلين بلغ 8 ملايين. وأشار إلي دلائل كثيرة تؤكد ارتفاع دخل المواطن المصري ومنها الندرة النسبية في العمالة الزراعية والبناء والتشييد، مما أدي إلي ارتفاع كبير في الأجر اليومي لهذه الفئات، بالإضافة إلي ارتفاع كبير في الوظائف التي تم توفيرها في قطاع النقل، حيث زادت نسبة سيارات نقل الأجرة بنسبة 41 ٪ في مصر طبقاً لأرقام الجهاز المركزي والإدارة العامة للمرور وزيادة السيارات السياحية بنسبة 70 ٪، مما ترتب عليها توفير 350 ألف فرصة عمل، بالإضافة إلي أن عدد التوك توك في مصر بلغ 350 ألفا، إلي هنا يقول المستمع: أين كل ذلك ولماذا يحيط بنا الفقر؟ قبل أن تفكر في طرح السؤال تأتيك الإجابة، أن استشعار المجتمع بالتراجع في معدلات البطالة مازال محدودا لأنهم - أي الناس - يقيمون الأمر من خلال المستوي المحلي وليس القومي، وهو ما لا يشعر به النائب - الذي يستمع إلي التقرير- أيضاً. يعني ذلك أن من يلاحظ أن مستوي التوظيف لم يتحسن أو تزايد عدد الفقراء، تكون مشكلته هو وليس أحد غيره. هذا المنطق عندي كمن يقول لك ما دام جارك أكل كباب فلماذا تشعر أنت بالجوع؟ علي أية حال، كانت المناقشات مفيدة للغاية وممتعة وأظن أن الاهتمام الاعلامي التحليلي بها يجب أن يرقي الي مستوي الجهد المبذول لاخراجها بهذه الصورة دون نوايا مسبقة بتناولها بالهجوم عليها لمجرد أنها صادرة عن أغلبية برلمانية للحزب الوطني، الرأي العام يحتاج إلي إدراك ما يسمي بالمقاييس الكمية والكيفية بطريقة تطبيقية مبسطة حتي لا يتعرض للخداع بكلام لا يقوم علي أساس.