أعلن مجلس الدولة المصري عن تعيين دفعة جديدة للعمل بوظيفة مندوب مساعد من بين خريجي كلية الحقوق دفعة 2009 من بين 15 الأوائل في كل كلية ومن شعب اللغات بالكليات سواء كانوا ذكورا أو إناثا، إلا أن الجمعية العمومية لمجلس الدولة رفضت تعيين المرأة في وظيفة القضاء بالمجلس وقد أثار هذا الرأي غضبًا شديدًا في الأوساط الرسمية وجميع منظمات المجتمع المدني بما فيها الأحزاب السياسية ولا يعتبر تجاوزا مني أن أقول بأنه أصبح يثير جدلا دوليا عالميا وأصبح يغذي الاتجاه المضاد الذي يروج لانتشار ظاهرة التعصب والتمييز في مصر سواء بسبب الدين أو الجنس أو الأصل أو المركز الاجتماعي. وقبل بداية الحديث أود أن أوضح حقيقة جليه أنني لست بصدد التعليق أو التعقيب علي حكم قضائي بل هو تحليل لرأي لا يرتقي إلي مرتبة القرار صادر من مؤسسة وهيئة عامة دستورية ليست مملوكة ملكية خاصة لأعضائها بل هي تدار لصالح الشعب وتصدر أحكامها باسمه والذي يحكم جميع المؤسسات الدستورية في الدول الديمقراطية هو الدستور القانوني الأسمي والقانون المنظم لعملها الذي يوجب علي المشرع عدم مخالفة أحكام الدستور وبالتالي لا يجوز لأي قرار أو لائحة أو حتي حكم قضائي يصدر من أي هيئة قضائية أن يخالف ذلك لأنه يجعل من مبدأي الشرعية وسيادة القانون اللذين هما ركيزتان أساسيتان من ركائز المواطنة وأي حكم ديمقراطي بل هما الركيزة الرئيسية لاستقلال القضاء وبالتالي فإن موقف الجمعية العمومية لمجلس الدولة ليس شأنًا داخليا لأنها تتعرض لقضية تهم المجتمع كله ولا يجوز أن نلوذ بالضمانة والحصانة لإهدار مبدأ الشرعية وسيادة القانون أو لحجب أي حوار مجتمعي بشأن هذه القضية. وقد استقر الفقه والقضاء علي أن القضاء وظيفة عامة، وبالتالي فإن الذي يحدد شروط شغل الوظيفة هو الدستور والقانون وليس الجمعية العمومية أو حتي المجلس الخاص. فيما يتعلق بمناصب القضاء لم يحظر دستور 1971 علي المرأة تولي وظائف القضاء، بل نص: تكفل الدولة تكافؤ الفرص لجميع المواطنين (مادة 8)، وأن المواطنين لدي القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة (مادة 40)، وإن العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة للمواطنين (مادة 12). وبالنسبة لقوانين السلطة القضائية لم تحظر اشتغال المرأة بالقضاء، ولم تفرق في صدد الشروط التي يلزم توافرها فيمن يتولي القضاء بين الرجال والنساء.. وهذه الشروط تنسحب علي جميع المصريين دون تمييز في الجنس، سواء كان رجلا أو امرأة. والحقيقة أن العرف والتقاليد القضائية قد جريا علي عدم تعيين المرأة من مناصب القضاء لا علي أساس من القانون أو الدستور، وإنما لاعتبارات الملاءمة واعتبار أحوال وظيفة القضاء وملابستها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد، وهي جميعها اعتبارات مخالفة للأصول الدستورية ولا تبرر تعطيل نصوص القانون، وقد ساير قضاء مجلس الدولة المصري وجهة النظر التي تحظر علي المرأة تولي منصب القضاء عندما أثيرت أول مرة عام 1951، حيث تقدمت الدكتورة عائشة راتب وزيرة الشئون الاجتماعية السابقة وأستاذة القانون الدولي العام بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وسفيرة مصر السابقة للتعيين في مجلس الدولة ورفضها طلبها، فلجأت إلي القضاء الإداري الذي قضي برئاسة المرحوم الدكتور عبدالرازق السنهوري، بعدم أحقيتها علي أساس أن: (قصر بعض الوظائف كوظائف مجلس الدولة والقضاء علي الرجال دون النساء لا يعدو هو الآخر أن يكون وزنا لمناسبات التعيين في هذه الوظائف تراعي فيه الإدارة بمقتضي سلطتها التقديرية شتي الاعتبارات من أحوال الوظيفة وملابساتها وظروف البيئة وأوضاع العرف والتقاليد دون أن يكون في ذلك حط من قيمة المرأة ولا ينال من كرامتها، ولا إنقاص من مستواها الأدبي والثقافي ولا يحط من نبوغها وتفوقها ولا إجحاف بها، وإنما هو مجرد تخيير الإدارة في مجالس تترخص فيه لملاءمة التعيين في وظيفة بذاتها بحسب ظروف الحال وملابساتها كما قدرتها هي، وليس في ذلك إخلال بمبدأ المساواة قانونا، ومن ثم فلا معقب لهذه المحكمة علي تقديرها ما دام قد خلا من إساءة استعمال السلطة). (محكمة القضاء الإداري جلسة 2 فبراير سنة 1952 الدعوي رقم 30 لسنة 4ق، مجموعة أحكام القضاء الإداري السنة 6، مج2، ص 484 القاعدة رقم 17). وقد أثيرت هذه القضية للمرة الثانية في قضية السيدة هانم محمد حسن الموظفة الإدارية بمجلس الدولة عام 1978، عندما تقدمت للتعيين في إحدي الوظائف الفنية به، ورفض مجلس الدولة طلبها، ولجأت إلي محكمة القضاء الإداري، ورفضت طلبها وقضت المحكمة الإدارية العليا بعد أحقيتها لذات الاعتبارات التي أوردها حكم محكمة القضاء الإداري في عام 1952 . وهذا القضاء محل نظر، لأن العرف أو التقاليد لا يستطيعان أن ينسخا نصا من القواعد إلا مرة في القانون، والأمر هنا لا يتعلق بقاعدة قانونية، بل بنصوص دستورية صحيحة في الدلالة علي وجوب المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وفي تولي الوظائف العامة. وإذا كان قضاء مجلس الدولة السابق الإشارة إليه أخذ بمعيار الملاءمة في إقصاء المرأة من وظيفة القضاء فإن لجبهة المعارضة رأي ومبررات أخري فقد نشر في الصحف تصريحا للمستشار عادل فرغلي رئيس الجبهة المعارضة لتولي المرأة لمنصب القضاء أنه (علي المجتمع المدني أن يتصدي لأفكار السلفيين وأن القصد من منع المرأة من تولي وظيفة القضاء هو منع المنقبات من تولي هذه الوظيفة لأنهم حصلوا علي حكم لصالحهم بإلغاء قرار حظر النقاب) وهذا التصريح يحمل دلالات عديدة ففيه إشارة إلي حكم وانحياز محدد مما يخرج عن التعليق وفيه رسالة محددة إلي جهة معينة بأن الطريق مفتوح لتعيين السلفيات وهو الأمر الذي يخرج أيضا من إطار التعليق لأنه يتعلق بالتفتيش في الضمائر والأفكار والعقول والقول يفصح أيضا ما دام لم يصدر من صاحبه تكذيب أنه علي جميع المحللين أن يتناولوا بالتحليل والنقد والمراجعة جميع الأحكام القضائية الصادرة لبيان مدي تأثيرها علي انتشار الفكر السلفي في المجتمع، ونحن نعد سيادته بذلك بدءاً من حكم التفريق لنصر حامد أبو زيد مرورًا بأحكام المنع والمصادرة وغلق الصحف وذلك دون تخلٍ عن حق المرأة المصرية الإنسانية التي تتوافر فيها شروط تولي الوظيفة العامة من تولي وظيفة القضاء وتمتعها بحقوق المواطنة كاملة غير منقوصة. وبالتالي فإن إعمال النصوص الدستورية أولي من إهمالها وهي نصوص قاطعة في عدم التمييز بين الرجل والمرأة في أي من الحقوق والواجبات. الجميع يدرك جيدًا أن مصر دولة وليست قبيلة وبأن عليها التزامات دولية مع الدول الأخري في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهي طرف في عدد كبير من الاتفاقيات الدولية التي توجب عليها الوفاء بها ما دامت لا تتعارض مع تحفظاتها سواء بالاستبعاد أو بالتفسير أو تنافي أغراض الاتفاقية وتخضع مصر علي سبيل المثال للمراجعة الدورية المتحدة ومن بينها لجنة المرأة (السيداو) وعملية المراجعة والإشراف ليس معناها التدخل في سيادة الدولة أو في شئونها الداخلية بل هي عملية تشاورية بين الدولة والدول الأطراف في الاتفاقية وتقييم لأداء الحكومات ومؤسسات الدولة المعنية بإنفاذ الاتفاقية، علي المستوي الوطني ومن بينها المؤسسات القضائية ومن بينها إبراز معيار تقدم الدولة في مجال إنفاذ الاتفاقية تطبيق القضاء لأحكامها. ومما لا شك فيه أن حصول أي مؤسسة أو هيئة علي تصنيف دولي متقدم في أي من المجالات يكون المستفيد الأول أعضاء الهيئة سواء كانت هيئة قضائية أو تعليمية أو حتي رياضية والأمثلة علي ذلك كثيرة ولا تدخل تحت حصر، ويظل العائد المعنوي هو المكسب الأكبر للدولة وللقضاء المصري مكانة راقية وسامية هو ونحن أيضًا حريصون عليها كل الحرص. والإشكالية هنا أن رأي الجمعية العمومية لمجلس الدولة يعتبر رأيا تمييزيا صريحًا طبقا للمادة الأولي من اتفاقية القضاء علي كافة أشكال التمييز ضد المرأة لأنه يتضمن تفرقة أو استبعادا أو تقييدا يتم علي أساس الجنس ويكون من آثاره أو أغراضه النيل من الاعتراف للمرأة علي أساس تساوي الرجل والمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو في أي ميدان آخر، أو إبطال الاعتراف للمرأة بهذه الحقوق، أو تمتعها بها أو ممارستها لها، كما أنه يعتبر (عنف ضد المرأة) واعتبرت لجنة المرأة (السيداو) في التوصية رقم 19 أن ممارسة التمييز ضد المرأة علي النحو الوارد في المادة الأولي من الاتفاقية عنف موجه ضد المرأة وهو بلا شك عنف موجه ضدها بسبب النوع الاجتماعي وبإنكار لقدرتها علي القيام بهذه الوظيفة الاجتماعية. لا يجوز استخدام المواقف التقليدية أو التاريخية أو الدينية أو الثقافية لتبرير انتهاكات حق المرأة في المساواة أمام القانون والتمتع علي أساس من المساواة بجميع الحقوق. وطبقا للمادة 3 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والتي صادقت عليه الحكومة المصرية فقد قالت اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية الدورة الثامنة والستون (2000) التعليق العام رقم 28 (المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء) تقع علي الدول الأطراف مسئولية كفالة التساوي في التمتع بحقوق الإنسان ودون أي تمييز. وتخول المادتان 2 و3 للدول الأطراف اتخاذ جميع الخطوات اللازمة، بما في ذلك حظر التمييز بسبب الجنس، لوضع حد للتصرفات التمييزية، في القطاعين العام والخاص علي السواء، التي تعوق التساوي في التمتع بحقوق الإنسان. وينبغي للدول الأطراف أن تضمن عدم استخدام المواقف التقليدية أو التاريخية أو الدينية أو الثقافية لتبرير انتهاكات حق المرأة في المساواة أمام القانون والتمتع علي أساس من المساواة بجميع الحقوق المنصوص عليها في العهد. وينبغي للدول الأطراف أن تقدم المعلومات المناسبة بشأن تلك الجوانب من الممارسات التقليدية والتاريخ والثقافة والمواقف الدينية التي تهدد، أو التي يمكن أن تهدد الامتثال للمادة 3، وأن تبين ما هي التدابير التي اتخذتها أو التي تنوي اتخاذها للتغلب علي هذه العوامل- 9- ووفقا للمادة 3، تتعهد الدول لدي انضمامها إلي العهد بكفالة تساوي الرجال والنساء في حق التمتع بجميع الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في العهد، ووفقًا للمادة 5، ليس في هذا العهد أي حكم يجوز تأويله علي نحو يفيد انطواءه علي حق لأي دولة أو جماعة أو شخص بمباشرة أي نشاط أو القيام بأي عمل يهدف إلي إهدار أي من الحقوق المنصوص عليها في المادة 3، أو إلي فرض قيود عليها غير واردة في العهد. وفضلاً عن ذلك، لا يجوز أن يكون هناك أي قيد علي تمتع المرأة علي أساس من المساواة بجميع الحقوق الأساسية المعترف بها أو القائمة تطبيقًا لقوانين أو اتفاقيات أو أنظمة أو أعراف، أو أي استثناء من تمتعها بها، بذريعة كون العهد لا يعترف بهذه الحقوق أو كون اعترافه بها أضيق مدي. وبالتالي لم يعد مقبولاً التذرع بالأعراف والتقاليد وأحوال الوظيفة وملابساتها وظروف البيئة وهي الأسانيد التي استند إليها قضاء مجلس الدولة في قضية فقية القانون الدولي الدكتورة عائشة راتب عام 1952 صالحة في القرن الواحد والعشرين وأنا علي ثقة بأن الفقيه العظيم المرحوم الدكتور عبدالرازق السنهوري لو أطال الله في عمره كان سيعدل عن رأيه وكم من مبادئ قضائية عدلت عنها دوائر محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا مجتمعة بعد ثبوت خطئها أو عدم ملاءمتها. لقد مر نادي القضاة أو بالتحديد تيار الاستقلال بهذه المحنة عند تعيين أول دفعة من القاضيات أمام محاكم الأسرة وانبرت أصوات أحادية من بين هذا التيار للهجوم علي تولي المرأة لوظيفة القضاء هي ذات الأصوات التي تساند موقف الجمعية العمومية لمجلس الدولة الآن إلا أن العقلاء من تيار الاستقلال استطاع ببراعة شديدة تجنب الصدام مع المجتمع المدني الذي كان ولايزال الدعم والحريص علي استقلال السلطة القضائية لذلك نقول للقضاة بلا استثناء أنتم سدنة وحماة مبدأ المساواة وحظر التمييز وأنتم لن تقبلوا علي أنفسكم وعلي وطننا الأم مصر أن يقال عنه علي غير الحقيقة أنه وطن يسوده التعصب والتمييز وعلي الذين يحملون في أيديهم فتيل تفجير الأزمات أن المجتمع المدني المصري لن يقف مكتوفي الأيدي نحو الزج بأي من المؤسسات الدستورية في مصر أو الانتقاص منها أو وصفها بالعنصرية أو بالحض علي التعصب والتمييز في المحافل الدولية لأن النشطاء الحقوقيين ليسوا معارضين سياسيين ولا يسعون للسلطة تحت عباءة أي حزب سياسي أو حركة بل أن مواقفهم لا تختلف من انتهاكات حقوق الإنسان سواء ارتكبتها الحكومة أو المعارضة أو جماعات ضغط أو نفوذ حكومية أو غير حكومية وادعوا كل النشطاء لعدم الإذعان لرسائل الترهيب التي يبثها بعض السياسيين حاليا القضاة سابقًا لحرمان المرأة من المنصة العليا وأن تفكروا جيدًا في آراء هؤلاء الأدعياء قبل أن يكون التغيير لما هو أسوأ لأنهم يملكون ويسخرون أدوات التأويل والسياسي والعرفي والقبلي لخدمة أغراضهم السياسية قضاة مصر الشرفاء أعيدوا النظر مرة أخري اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.