واحد من الأدوار التي يرفضها بعض الكتاب من جيلي ومن الجيل التالي هو دور الكاتب العمومي، المتحدث باسم الشعب، المهموم بقضايا الشعب. لا يمنعهم هذا العزوف عن المشاركة في الوسط الثقافي، الاشتراك في ندوات ومؤتمرات، الادلاء بأحاديث للصحف، ممارسة النقد من وقت لآخر، النشر علي الانترنت أحيانا، إلخ. الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية - الأدبية وغير الأدبية - أصبحت منفذ الاتصال بالناس، يكاد يكون المنفذ الوحيد الذي يتمتع بنوع من الدوام في حياة الكاتب، وهو لا يتطلب بالضرورة لقاء مباشرا بالقراء، بل يمكن التنازل عن لقاء القائمين علي هذه الصحف والجرائد أنفسهم، حيث يتم إرسال المادة المكتوبة بالإيميل وهو ما يفعله معظم الكتاب الروائيين. مفهوم عزلة الكاتب تغير أيضا، لم تعد العزلة الكاملة ممكنة بسبب الاتصال الدائم بالعالم الخارجي عبر الانترنت، ولم تعد مبررا للتمييز بين كاتب عمومي "مهموم بالقضية" وكاتب ذاتي "غير مهموم". يتلامس مضمون النصوص المكتوبة مهما كان تطرفها فنيا مع واقع ما، مع تاريخ ما، عام أو شخصي. للناقد الحق في رصد هذه العلاقة وتأويلها، وللكاتب الحق في رفض التأويل أو التجاوب معه. لكنها ليست عزلة خالصة تلك التي يدعيها الكتاب أحيانا للابتعاد عن الناس والتفرغ للكتابة. هي عزلة مؤقتة بحساب الزمن، حتي لو كانت متغلغلة في الروح بمقياس الطبيعة النفسية للكاتب. ربما لا يري الكاتب العمومي نفسه منفصلا عن الناس، منعزلا في وحشته وغربته ككاتب وكفرد.... وربما يعتبر التاريخ العام أهم بكثير من التاريخ الشخصي فيتعمد الدفاع عن الموقف العمومي وتسفيه الموقف الخاص أو الذاتي. جيل دولوز كان واحدا ممن سفهوا تلك الذاتية الفرويدية. في كافة الأحوال، يعتبر رصد ملامح من التاريخ الشخصي في الكتابة محاولة للإجابة عن سؤال "من أنا؟"، وهو سؤال وجودي وحيوي يطرحه الكتاب جميعا علي اختلافهم من خلال شخصيات متخيلة أو استنادا لذاكرة جمعية أو بناء علي تجربة ذاتية لا يترددون في الانتساب إليها... الإجابة عن سؤال الأنا تنحصر أحيانا في نوع أدبي بعينه مثل أدب السيرة الذاتية (والفكرية) وأدب المراسلات وأدب الاعترافات. وفي أحيان أخري كثيرة لم يكن الكاتب روائياً بالمعني التقني للكلمة، فسارتر ومن قبله نيتشة علي سبيل المثال كتبا تاريخا ذاتيا يتقاطع مع سيرتهما الفكرية ويفسرها، كما أن مراسلات فان جوخ لأخيه تيو تندرج تحت نوع المراسلات الأدبي رغم كونها لا تعد أدبا صرفا، واعترافات سان أوجستان ليست أدبا بالمعني المتعارف عليه لكنها تنتمي لهامش الجنس الأدبي. المشكلة النقدية التي تواجهها تلك الأنواع والكتاب المشار إليهم تتعلق بفكرة زائفة تخص الانتماء والبيوريتانية، الانتماء لقبيلة الروائيين دون غيرها وإقصاء من عداهم من دائرة الكتابة الروائية، وبيوريتانية وحذلقة النقاد القائمين علي تحليل وتفسير وتصنيف الكتابة إلي أنواع وتصنيف الأنواع وفقا لتراتبية من خارج المتن الأدبي، تترأسها -في اللحظة الراهنة - الرواية فيما تقع أشكال السيرة الذاتية في أسفل السلم ويواجه كتابها بنوع من الحذر. قسم هام من أقسام الرواية العالمية الآن، وبشكل مطرد منذ التسعينيات، يلح في طرح هذا السؤال، سؤال ظاهره نرجسي وباطنه قلق وجودي لا إجابة عنه، سؤال عن ماهية وحدود هذه "الأنا"...أنا الروائي الكاتب التي تتوزع عادة في أنوات أخري، منها أنا الراوية الذي يحكي حدوتة تبدو وكأنها شخصية، ثم نجد هذه الأنا وقد تحولت إلي "هو"، وكأن ضمير الغائب يكشف عن تعدد وازدواج الأنا الواحدة في لعبة مرايا شديدة التعقيد. بالطبع تبدو تلك الصيغة الروائية وكأنها تقف في مواجهة مستمرة وعنيدة مع التاريخ (ما يسمي بالقضايا الكبري أو نماذج الحكي الكبري)، ولكنها لفرط إغراقها في تجاهله تجدها أحيانا تعلق عليه بشكل غير مقصود، بمرارة أو بحنق. رفض التاريخ موقفاً تاريخياً... بمعني أن قراءته في سياقه التاريخي لا يقلل من أهميته كموقف فني وإدراكي. تعاملي مع التاريخ الشخصي بدأ بصيغة شبه مرضية، ليس لأفهم من أنا، ولكن لأربط نفسي بالحياة من جديد، لأقاوم هاجس الموت الذي أطبق فجأة علي حياتي وجعل الكتابة منفذا وملاذا. "دنيازاد"، روايتي الأولي التي أعتبرها رواية سيرة ذاتية، رواية مكتوبة بدافع الهروب، لكنها تغازل إمكانية العودة للحياة الطبيعية ، رواية مقاومة بمعني من المعاني. صحيح أن الشخصية الرئيسية فيها تموت منذ السطور الأولي ولا نراها حية أبدا في الرواية، إلا أن موتها يثقل علي الراوية/أنا/الأم، هذا الموت المفاجئ تحول من خلال الكتابة لإمكانية حياة. الطفلة التي تموت في رحم الأم لحظة ميلادها تحيا في الرواية، من خلال الرواية، تحمل اسما أو عنوانا. "ميكي" الشخصية الرئيسية في رواية "هليوبوليس" ولدت في نفس البيت الذي ولدت فيه، في نفس اليوم والساعة التي ولدت فيها، باسم قريب الشبه من اسمي، فاسمها الأصلي "ماهي"، لكنها ولدت لأم وأب وعائلة ليسوا أمي وأبي وعائلتي. وكثير من الأحداث التي تمر بها لم أمر أنا بها بالضرورة. السؤال هنا موجه لفهم الشخصية، "من أنت؟" والإجابة عنه تتخذ أشكالا متعددة، درجات متفاوتة من الدقة والواقعية: أنت من تتوق للصعود، أنت من تفضل العوم علي الثبات، أنت من تهوي اللعب. في الرواية، تري ميكي نفسها ويراها الآخرون مثل ماريونيت. كانت الماريونيت من وجهة نظري محاولة للتأكيد علي فكرة اللعبة، فالذاكرة والبحث عن معني ألعاب نمارسها يوميا بلا وعي. والعروسة التي تحركها أيد خفية تعي كونها ماريونيت وتستمع باللعبة بوعي بنت في الخامسة من عمرها أو بوعي امرأة تكتب في نهاية التسعينيات، والتداخل بين الشخصيات، "مي" و"ميكي" و"ماهي"، وبين الزمنين، السبعينيات والتسعينيات، تداخل مؤثر فنيا لأنه يقلب العلاقة بفكرة الكاتب (العمومي) وبالزمن (الذاتي والعام) رأسا علي عقب. ولولا هذا القلب أو الانقلاب الدائم لما كان للأدب ضرورة في حياتنا.