تحقيق من القدس : مني أبوعيسي مازالت المفاوضات بين حماس وإسرائيل مستمرة حول استرداد إسرائيل لجلعاد شاليط الجندي الذي أسرته حماس منذ فترة زمنية طويلة. حماس قامت ببث شريط فيديو في أكتوبر الماضي، يثبت أن شاليط مازال علي قيد الحياة.. وفي المقابل قامت إسرائيل بإطلاق سراح 20 امرأة فلسطينية بالإضافة إلي سجينين من الدروز. بشر سليمان وعاصم محمود اللذان عادا أخيرًا إلي مرتفعات الجولان بعد أن أمضيا قرابة 25 عامًا في السجون تمزقا فيها ما بين إسرائيل وسوريا وتورطا دون قصد منهما في الصراع الذي كان ومازال يحدث علي أرض غزة. السجن كان مدرسة من مدارس الحياة.. هكذا قال لي بشر الذي يبلغ من العمر 44 عامًا وقضي أكثر من نصف عمره في السجون الإسرائيلية.. فوقه كانت هناك صورة كبيرة معلقة علي الجدار.. بشر كان يبتسم فيها وبجواره أخوه.. وفي خلفيتهما صورة جدارية لشلالات المياه.. هذه الصورة التقطت لهما بواسطة مصور المحبوسين بالسجون الإسرائيلية. علمت من بشر أنه من أجل أن يتم السماح بمثل هذه الصورة والصور التالية قام السجناء بالامتناع عن الطعام لمدة 15 يومًا. بجوار الصورة تستطيع أن تري علم سوريا مصنوعًا يدويا ومعلقًا علي الحائط. مازال شقيق بشر الذي يدعي صدقي خلف أسوار السجن لم يخرج بعد. أما عاصم السجين الآخر الذي يبلغ من العمر 42 عامًا فهو عاشق للرسم وماهر في التعامل مع الألوان في لوحاته الرمزية التي ينبعث منها سحر عفوي ساذج بعض الشيء. الحصان أحمر اللون لكي يعبر عن الثورة.. هذه كانت جملته لي وهو يصف لي إحدي لوحاته التي صور فيها نسرا يحمل روح الرئيس الراحل حافظ الأسد ويحلق بها إلي الفضاء والأبدية تاركا وراءه قوس قزح وكوكب الأرض. هذه اللوحة رسمها عاصم بينما كان لايزال في السجن. منذ شهر تقريبًا خرج بشر وعاصم من بوابات سجن جلبوع الذي قضيا فيه قرابة 25 عامًا. وعندما وصلا إلي حدود قرية مجدل شمس بالجولان علي متن سيارة مكشوفة السقف استقبلهما الجميع استقبال الأبطال. أيادي المنتظرين أحاطت بهما من الجانبين وهي تحمل الأعلام السورية.. في الوقت الذي انهال عليهما المديح من قبل الإعلام السوري الذي أثني علي بطولاتهما وإخلاصهما. حسن سير وسلوك في مقابل الفيديو الذي يتحدث فيه جلعاد شاليط والذي قامت حماس ببثه أفرجت إسرائيل عن 20 امرأة فلسطينية والسجينين الدرزيين علما بأن العقوبة الموقعة علي الرجلين كان من المفترض أن تمتد ل27 عامًا. أسامة المزيني القيادي البارز بحماس والمسئول عن مفاوضات تبادل المساجين والأسري قال إن السجينين السوريين كانا علي رأس القائمة التي طالبت حماس بإطلاق سراحها في مقابل شريط الفيديو. ومع ذلك أشارت الحكومة الإسرائيلية بأنها أفرجت عن السجينين قبل انتهاء العقوبة كلفتة ودية منها للقطاع الدرزي. في شريط الفيديو الذي قامت حماس ببثه يتحدث جلعاد شاليط الذي يبلغ من العمر 23 عامًا عن ذكرياته في مرتفعات الجولان مع أسرته عندما كان يخدم هناك في 2005.. مثلما تحدث عن أمله في الحرية. في 2006 قامت حماس باعتقال شاليط عندما كان يقوم بأداء خدمته علي حاجز غزة في إحدي الحملات النادرة التي شنتها من أجل عبور الحاجز التي أسفرت عن موت 4 أشخاص. انطلاقًا من هذا اليوم ارتبطت حياة شاليط ارتباطا وثيقا بحياة بشر، عاصم ومئات من المساجين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. عائلة شاليط لم تستلم سوي 3 خطابات تثبت بقاءه علي قيد الحياة منذ اعتقاله. جمعية الصليب الأحمر المهتمة بحماية الأوضاع الإنسانية للمساجين قالت إنها حاولت عبثا أن تبني اتصالاً ما بين شاليط وأسرته ولكنها لم تنجح. قضية شاليط اكتسبت الكثير من الشهرة منذ اعتقاله ويرجع الفضل في ذلك إلي بوستراته المعلقة في كل مكان، والمظاهرات والمقالات المنشورة في عشرات الصحف. عاصم أحد المسجونين الدرزيين سبق وأن قام برسم لوحة كاريكاتورية كنوع من التعليق علي أزمة شاليط.. حيث رسم الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي وهو يحمل برج ايفيل في يد بينما يحمل شاليط في اليد الأخري.. ولكن كان واضحًا أن الأخير يبدو أثقل من البرج. عاصم قال لي إن وسائل الإعلام هي التي تتحكم في الميزان وأنها في بعض الأحيان تقوم بتعديل ميزان تبادل المساجين والأسري وإعادة توجيه بوصلته وفقًا لاتجاهه نحو قضية شاليط. شاليط لا يساوي ألف مسجون فلسطيني.. هكذا قال عاصم الذي أخذ يشرح لي أن المسألة ليست عودة شاليط وإنما في الضغوط التي تمارس علي إسرائيل من أجل استعادته بأي ثمن. إسرائيل لها تاريخ طويل من اتفاقيات تبادل الأسري غير العادلة. منذ عام 1983 قامت إسرائيل بإطلاق سراح 7000 فلسطيني في مقابل قيام الطرف الفلسطيني بإعادة 10 إسرائيليين ورفات 8 آخرين وفقا لمركز إعلامي إسرائيلي. وفقًا لإحدي منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية بيتسيلم فإن إسرائيل مازالت تحتفظ بما يقرب من 6800 سجين فلسطيني متورطين في قضايا أمنية ووفقًا للصليب الأحمر مازال هناك حوالي 8 مساجين من الدروز في السجون الإسرائيلية. مازالت المحادثات مستمرة بين إسرائيل وحماس برعاية مصر وبوساطة ألمانية من أجل إطلاق سراح شاليط في مقابل 1000 مسجون فلسطيني. قائمة حماس للمساجين الفلسطينيين تشمل القيادي الفتحاوي بالضفة الغربية مروان البرغوثي الذي يتوقع أن يكون في يوم ما الرئيس الفلسطيني القادم، وأحمد سعدات المساعد العام لحركة المقاومة الشعبية لتحرير فلسطين. خاصة وأن هذين الاسمين هما النقطة الشائكة بالصفقة. مازالت الاتفاقية تنتظر موافقة إسرائيل، عضو البرلمان الإسرائيلي البارز دانيال بن سيمون كان قد قال منذ حوالي شهر أن عملية تبادل الأسرة ستتم خلال أسبوع أو أسبوعين.. في الوقت الذي كانت تهيئ فيه حماس التي احتفلت بالذكري ال22 لتأسيسها منذ أسابيع نفسها لاستقبال العائدين إلي الديار مع بداية العام الهجري الجديد وهو ما لم يحدث حتي الآن. بين دولتين ولد بشر الذي عاد إلي منزله منذ أسابيع قليلة في الجولان لما كانت جزءًا من سوريا في 1965 بينما ولد عاصم في الجولان بعدما احتلتها إسرائيل في 1967. كان ذلك قبل أن تتفاقم أوضاع الصراع بين سوريا وإسرائيل كل من الرجلين تلقي تعليمه الأساسي في مدرسة واحدة بمجدل شمس وتربي الاثنان علي مشاهدة أهاليهما وهم يحاربون من أجل عودة الجولان المحتلة. كل منهما رأي أرضه وهي يتم التحكم فيها من قبل إسرائيل التي قامت بفصلهما هما وأهاليهما عن بلدهما سوريا التي طالما كانت لهما البلد الأم أثناء مرحلة الثانوية العامة التحق بشر وعاصم بالحركة السرية لتحرير الجولان. تربي الاثنان علي التمرد، البطولة وعلي رائحة البارود. وفي عام 1985 تم القاء القبض عليهما لمشاركتهما في أعمال عسكرية. في بدايات الثمانينيات كانت نقطة تحول بالنسبة لحركة المقاومة السياسية والعسكرية لدروز الجولان. ونقصد هنا خطوة ضم الجولان لاسرائيل في 1981 والاضراب العام في 1982 احتجاجاً علي فكرة المواطنة الإسرائيلية. النتيجة في النهاية كانت أن دروز الجولان مازال يتم حكمهم من قبل إسرائيل ولكن مازال الكثير يرفض أن يتم التعامل معهم كمواطنين إسرائيليين. والذي تجرأ وحصل علي الجنسية الإسرائيلية تم طرده من قبل المجتمع الجولاني وتم عمل ملف خاص به في حال أن عادت الجولان ودروزها إلي سوريا. لقد سمعت من أهالي الجولان أن هناك حوالي 120 درزيا جولانيا أخذوا الجنسية الإسرائيلية وبالتالي انقطعت الاتصالات بين الأهالي وبينهم حتي في الأفراح والجنازات. مازال الكثير من عائلات دروز الجولان يعيشون بمنأي عن أقاربهم بالجانب السوري. حالة الحرب المستمرة بين الدولتين سوريا وإسرائيل تجعل فكرة التقاء أفراد العائلة أقرب للمستحيل إلا في حالات نادرة الحدوث مثل التعليم - الحج - والحالات الطبية الطارئة. لقد عاش سليمان مقت والد بشر في كل من الدولتين إسرائيل وسوريا دون أن يترك قريته مجدل شمس. قالها لي بالنص نحن سوريون ونخضع للقانون السوري حتي وأن كنا نعيش هنا في إسرائيل. والد بشر له ملف أمني خاص به لدي قوات الأمن الإسرائيلي لمشاركته في الكفاح ضد الاحتلال.. بالإضافة إلي تفاصيل عن أبنائه الخمسة بما فيهم بشر وكل المعلومات المتعلقة بالمسجونين وتفاصيلهم. أيام خلف القضبان معظم الحقوق التي حصل عليها المساجين كانت عن طريق الامتناع الجماعي عن الطعام تلك المعلومة علمتها من بشر وهو يعود بذاكرته إلي أكثر هذه الاضرابات شهرة والذي حدث في عام 1992 عندما امتنع كل المساجين بالسجون الإسرائيلية عن الطعام لمدة 15 يومًا. بينما تذكر عاصم أطول اضراب والذي امتد لمدة 18 يوماً في 2005 في البداية كان يكتفي المسجون بالماء والملح وفي حالة استمرار الوضع علي ما هو يتم الاستغناء عن الملح والاكتفاء فقط بالماء. بشر تحدث إلي كثيرا عن هذه الإضرابات كان هدفنا هو الحصول علي مواقد، مراوح، تعليم مفتوح بالإضافة إلي زيادة الزيارات العائلية، وبالفعل نجحنا في جعلها 45 دقيقة بدلاً من مجرد 30 دقيقة. ثم قاطعني سائلاً هل ترين صور المساجين المعلقة علي الحائط؟ لقد نجحنا من خلال هذه الاضرابات الكثيرة في الحصول علي حق التصوير .. لم يكن الوضع هكذا منذ 1976 حتي 1993 ببساطة كان من الممكن أن يموت الشخص دون أن يستطيع أهله في سوريا التعرف عليه. سامح أيوبي هو أحد الأشخاص الذين دخلوا وخرجوا من السجون الإسرائيلية أكثر من مرة في السبعينيات والثمانينيات بسبب تورطه في القوات السورية السرية وهو الذي أخبرني عما يسمي بأدب السجون. علمت منه أن كل شيء له علاقة بالأدب والثقافة كان يتم ضخه في خلايا السجون الإسرائيلية كان عن طريق الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تلك الجبهة عبارة عن حزب شيوعي علماني بدأ نشاطه منذ 1972 . الجبهة كانت تركز علي نقل مضامين معينة إلي المساجين مثل العلوم السياسية اللغات الأجنبية، والفلسفة الماركسية. الأمر في المعتقلات كان أشبه بمقاومة فكرية.. هكذا قال لي سامح أيضا عاصم قال لي إنه كانت تتاح له خلال السجن فرصة قراءة الكثير عن الفلسفة، السياسة، الأدب، واللغات. أريد أن أواصل دراستي وخاصة دراسة الفلسفة، أريد أن اكتشف العالم.. أن أقابل أشخاصًا مختلفين. أن ارسم وأن اتعلم لغات كثيرة. عاصم متلهف علي االلحاق بربع قرن من الزمان قضاه خلف القضبان وهو يشاهد العالم من حوله يتغير علي صفحات الجرائد وفي التلفاز. أما بشر فليس لديه خطط واضحة بعد عن المستقبل، إنه يفكر في بدء نشاطه الخاص بالاتجار في التفاح علي اعتبار أن هذه التجارة هي مصدر الدخل الأساسي لدروز الجولان. عاصم قال لي إن شيئاً لم يختلف لا أشعر أن مجدل الشمس قد اختلفت كثيراً بعد 25 عاماً من الفراق، ومازالت بطولة الناس وكبرياؤهم كما هما لم يتغيرا. أيضاً قال لي بشر وعاصم إن شكل القرية فقط هو الذي اختلف وليس روحها، كل منهما يشعر أن السجن كان مدرسة من مدارس الحياة. لقد تعلما فن المقاومة وراء القضبان، تم وضعهما في حبس انفرادي ومع ذلك تأقلما مع الوضع، اضربا عن الطعام وتعلما الكثير عن اللغات والأدب.. وواصلا نموهما ونضوجهما. الآن رغبتهما الوحيدة هي في اللحاق بالعالم الذي مضي في طريقه بدونهما.