تقترن الديمقراطية الليبرالية بالتسامح أساسا ، لأن التسامح هو الصخرة التي تقوم عليها الديمقراطية الحقيقية ، وهو الذي يحافظ عليها من أن تتحول إلي نقيضها وهي (الدكتاتورية)، التي تتمثل خطورتها في الشمولية والجمود والتعصب والعنف . ذلك أن أية محاولة لإعطاء قرارات الأغلبية في الديموقراطية الليبرالية صفة (الإطلاق) معناه انكار طبيعتها المشروطة . والتسامح يوفر المعيار الذي يمكن به لقرار الأغلبية أن يفهم ويفسر . ففي اللعبة الديمقراطية تحترم الأقلية قرارات الأغلبية ، بما في ذلك طاعة القوانين التي سنت . لكن هذا لا يعني الموافقة كل الموافقة علي هذه القرارات ، فيظل للأقلية الحق من خلال وسائل الإعلام وحرية التنظيم والتظاهر ، في أن تطالب بتعديل القرارات التي تم إصدارها في فترة انتخابية أخري . ولذلك يجب أن تكون قرارات الأغلبية ذات طبيعة قابلة "للتسامح". من هنا يصعب الفصل بين " التسامح " وبين الديمقراطية والتعددية .. فمع التعددية يحيا الاختلاف ومبرراته ، حيث يقبل الجميع داخل المجتمع الديمقراطي الليبرالي مبدأ التسامح وحق الاختلاف الذي تفرضه اللعبة السياسية . وإذا أردنا تكريس التسامح وتأصيله ينبغي أن نعمل علي ترسيخ الديمقراطية الليبرالية ومؤسساتها أولا . لأن التسامح هو أكثر من مجرد القبول بالآخر ، أنه الاعتراف بالحق في التباين والتنوع والاختلاف ، وقبول الحق في الخطأ كحق من حقوق الإنسان ، وعدم منع الآخرين ، أو إكراههم علي التخلي عن آخريتهم - Otherness ، وتلك هي أهم مقومات الدولة المدنية الحديثة. يقول الفيلسوف " كارل بوبر": "يؤمن الغرب بأشياء عديدة مختلفة ، بأشياء طيبة وأشياء خبيثة ونوعية هائلة من الأفكار قابلة للوقوع في الخطأ ، والتسامح . فبعد أن أنهك الصراع الديني والمدني انجلترا أصبحت مستعدة لأن تسمع من جون لوك ، وغيره من رواد التنوير ، مجادلات عن التسامح الديني ، وأن تقبل مبدأ أن الدين المفروض بالقوة لا قيمة له ، واستطاعت الديمقراطيات المعاصرة بروح التعددية أن تحترم اعتقادات الناس من كل صنف ، بآرائهم ومعتقداتهم المتباينة " فالمجتمع التعددي هو الإطار الضروري لتحقيق المعاني والأهداف السياسية ". اليوم أصبح العالم موزعاً بين ثلاثة اتجاهات رئيسية ، بين الأفراد والجماعات والأحزاب : أولا ، الادعاء بالحق المطلق والصواب المطلق، وهو ما يعرف بالحقيقة المطلقة - Obsolutism. ثانيا، الزعم بالنسبية أو إن شئت الدقة النسبوية - Relativism. ثالثا، الدعوة إلي التعددية الليبرالية - Pluralism . والمطلقية سبب النزاع في العالم لأنها تستبعد الآخر وتقصيه وتكفره لأنه لا يوجد سوي مطلق واحد ، والنسبوية بإنكارها الحقائق الموضوعية ومنظومة القيم ، تلتزم بما يحقق مصالحها من قيم الأشخاص والجماعات بشكل انتهازي أحياناً . أما التعددية فهي تختلف عن كل من المطلقية والنسبوية . وهي تعتقد أن الحقيقة والقيم متعددة الأبعاد بحيث لا يمكن لأي فرد أو جماعة الإدعاء بامتلاك أكثر من بضعة وجوه من الحقيقة والصواب ، وعليه أن يحترم عقائد الآخرين والأفكار المختلفة الأخري . و"التسامح" الذي تروج له النسبوية ليس أكثر من فضيلة مؤقتة عند أنصار التعددية الليبرالية . وعلي حين تتطلب التعددية الجهد الفعال لإدراك عقائد الآخرين وقيمهم والاستفادة منها ، فإن التسامح مع الآخرين - علي الطريقة النسبوية - يمكن التعبير عنه بتجاهلهم وعدم الاكتراث بمعتقداتهم، هذا التعالي الثقافي يؤدي إلي التعصب والانعزال والجمود أيضا. و "التعددية" فكرة ابتكرتها الفلسفة البرجماتية ، وطرحها الفيلسوف الأمريكي "وليم جيمس" كحل لمشكلة الجمود العقائدي أساساً داخل الولاياتالمتحدة ، يقول : " ينبغي لإيماننا أن يتسامح مع ألوان الإيمان الأخري ، لأن الإيمان ليس عاملا شكليا في العالم ، الذي نعيش في داخله جميعا ، ويحدد سلوكنا معالمه ويشكل طابعه الكلي ".