ظننت أنني مستعدة.. واتضح أنني لم استعد جيدا.. وظننت أنني أعرف المدينة وأتضح لي أنني لم أعرف إلا القشور.. وظننت أنني خبرت المهرجان الذي ذهبت لحضوره بعد أن حضرته مرة منذ عامين، وأتضح أنني أيضا لم أعلم الكثير عنه، هل نسيت بعض ما أعرفه عن المدينة والمكان والناس؟ أم أن ايقاع الحياة السريع وايقاع العمل الأسرع هو السبب. بالطبع ايقاع الحياة يختلف حين تترك القاهرة وتذهب إلي هولندا، وحتي لو لم تكن في العاصمة، وإنما مدينة أو عاصمة ثانية فإن مستوي الايقاع لا يختلف ولا مستوي الحياة بالطبع فالماء يجري في كل قناة مهما بعدت أو قربت من المركز، هنا في روتردام حيث يقام مهرجانها السينمائي الدولي الكبير الذي يوضع ضمن أكبر مهرجانات السينما في العالم وأهمها، تستطيع أن تجد كل شيء جاهزاً وممهداً لهذا الحدث، مهما عاند الجو، واكفهرت الطبيعة. وربما تعبر تلك الكلمة عن رؤية امرأة مثلي قادمة من بلاد تشرق فيها الشمس غالبا، وتسمع فقط عن الثلوج ولكنها - أي الثلوج بكل أحجامها - حقيقة هنا تراها من نافذة الفندق وتنتظر توقفها وأنت في اللوبي تتأهب للذهاب إلي عروض المهرجان وحين تظن أنها توقفت وتخرج مسرعا للشارع تبدأ من جديد، بأحجام أكبر تشبه البندق في صلابته وحين تقرر الاستمرار تجد الطريق إلي وسيلة المواصلات مسدودا بالثلوج فتعود من جديد وتطلب "تاكسي"، غير أن هذه التضحية باليورو من أجل رؤية الأفلام لا يمكن أن توقفك عن ملاحظة وتأمل الشارع الهولندي. الهدوء الكامل حتي مع وجود أفراد وجماعات يرمحون ويتصايحون لعبور مناطق الثلوج في الشوارع والنواصي غالبيتهم يرتدي البوت الطويل والبالطو والكوفية ومعه الشيء لزوم الشيء أي الشمسية "هذا اسم خاطئ" والأنسب أن نقول المظلة التي تحمي من المطر بعد زخات الثلج وقد حدث ووجدت نفسي أعود من جديد لماذا لم أتعلم أن هناك أساسيات في البلاد الأخري لا يجب أهمالها؟ ولماذا نحن مغرمون بأسلوبنا في التعامل مع الأشياء التي انتهي منها العالم من زمن؟ كان البرد قارسا وساحقا في أول ثلاثة أيام جعل ضيوف المهرجان من السينمائيين والنقاد والصحفيين أشبه برجال الإسيكمو كما نراهم في الرسوم والأفلام كل واحد مسلح بأغطية وقبعات وأحذية تليق بهذا الصديق اللدود، تذكرت القاهرة وأن معاناتنا في البرد مجرد نكتة بالقياس إلي هذا البرد، وتلك الدرجات التي تنخفض تحت الصفر، وحين تحسن الجو وقفزت الدرجات لتعلو الصفر بثلاث أصيب الناس بحب الحياة وظهرت جموع المشاهدين للعروض حول مقر المهرجان ودور العرض الكبيرة التي تعرض أفلامه وأغلبها حول المقر أو بجانبه، سألت نفسي لماذا يبرع الناس في تنظيم أمورهم وتحسين أدائهم ولا نتعلم منهم؟. لسنوات طويلة طالبنا بوجود مقر مستقل لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي غير الشقة التي يقبع فيها في شارع قصر النيل، ولم يلتفت أحد لهذا.. طالبنا بنظام للعروض يجعل مهرجاننا يستحوذ علي مجمعات سينمائية بكاملها ويقدم تسهيلات لمرتاديها حتي تصبح السينما ضمن إيقاع الحياة اليومي للمصريين، امكانيات مهرجان روتردام كبيرة ولكن جهده أيضا من خلال مجلس إدارته غير محدود. وفي الكتاب التذكاري لهذه الدورة التاسعة والثلاثين، كتب مدير المهرجان روجر وولفسون يحيي جهد مديره السابق الذي حمل حبا كبيرا للسينما والسينمائيين وابتكر برنامج "السينما والسوق" منذ عشرين عاما، اليوم أصبح هذا البرنامج ملجأ للكثيرين من صناع السينما في كل مكان بالعالم لدعم أفلامهم وغيره صندوق ثان لدعم المشروعات السينمائية للمخرجين والمخرجات الجدد باسم "هوبرت بالس" أول رئيس لهذا المهرجان، ومن المهم هنا ذكر أن بالس قد حضر إلي مصر عام 1988 من أجل الاتفاق علي عرض برنامج عن السينما المصرية في المهرجان، وأعلن وقتها أنه اكتشف مصر سينمائيا هو وجمهور السينما الهولندي ودعا وفداً كبيراً إلي المهرجان كان من بينه فنان السينما الكبير الراحل صلاح أبوسيف ومحمد خان وخيري بشارة وفايز غالي ورؤوف توفيق وبشير الديك وعدد من كبار النقاد كان من المفترض بعدها أن يستمر التواصل بين السينما المصرية ومهرجان روتردام، خاصة أنه مهرجان باحث عن الأجيال الجديدة من صناع السينما، وغير مهتم بحضور كبار النجوم واستعراضهم علي البساط الأحمر.. لكن الأمور اختلفت كثيرا فقد عرض المهرجان هذا العام برنامجا خاصا بعنوان "أين توجد أفريقيا" قدم فيه 22 فيلما عن دول وسط وغرب وجنوب أفريقيا، واعتبر افريقيا هي هذه المناطق فقط وكأن مصر ودول شمال أفريقيا ليست جزءاً منها. والمحزن أنه لا يوجد أي فيلم مصري ضمن 12 برنامجا في المهرجان، وأن الأفلام المصرية تذهب فقط إلي مهرجان آخر باسم المدينة نفسها هو مهرجان روتردام للسينما العربية الذي يقام في يونيومن كل عام ويحظي برواج إعلامي عربي كبير عندنا، فهل استبدلنا الأصل بالفرع بل ربما أقل في إطار حجم وأهمية وقيمة هذا المهرجان الكبير، أم أن السينما المصرية لم تعد تحظي باهتمام المديرين الجدد لهذا المهرجان بعد رحيل بالس.. ومن هو صاحب الخطوة الأولي لتصحيح هذا الوضع؟ هل هم السينمائيون المصريون أنفسهم أم مؤسسة السينما عفوا أقصد المركز القومي للسينما في مصر أم غرفة الصناعة أم من.. يصعب علي أن اقرأ لأن المهرجان اعطي دعما في العام الماضي لحوالي مائة فيلم، منها 45 فيلما قدم لها صندوق بالس الدعم لمخرجين من 18 دولة أغلبهم من قارة آسيا ولا يوجد مصري واحد حصل علي دعم من المهرجان، أو عربي.. مهما فعل الآخرون فنحن مقصرون.