الكتاب ليس مجرد بورتريهات رسمها الروائي محمود الورداني لشخصيات امتدت علي مر التاريخ بدأها ب"الفاتح العربي" موسي بن نصير (توفي 715م)، وختمها بالناشطة اليسارية الراحلة أو بالأحري "المنتحرة" أروي صالح (رحلت 1997م). فكتاب "بعض ما يمكن قوله..أوراق ليست شخصية" الصادر في طبعته الثانية حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، لا يحمل تصنيفا معينا، لأن الورداني ارتكز فيه علي ما دونه التاريخ بحق تلك الشخصيات ومزج ذلك برؤيته الخاصة الروائية لها، ثم استخدم تلك الشخصيات في بعض الأحيان كمدخل يناقش من خلاله موضوعات تتعلق: بالحكم العربي للأندلس، قضية الاستشراق، علاقة المثقف بالسلطة وغيرها، وفي هذا الحوار نفتح مع الورداني إلي جانب هذه القضايا، قضية أخري تتعلق بوضع التنظيمات والأحزاب الشيوعية. - إلي أي مدي تدخلت في التأريخ للشخصيات التي تناولتها؟ وهل كان هذا مقصودا؟ لم يكن من بين مقاصدي أن أعيد كتابة هذه الشخصيات وفقا لما أتاحه التاريخ، لأن هناك كتابا كثيرين أشبعوا هذه الشخصيات كتابة وبحثا، ولكني كنت أبحث عن الملامح الروائية في كل شخصية، فدرية شفيق مثلا يمكن النظر إليها باعتبارها مجرد امرأة لها ميول استعراضية، بينما تأمل سيرتها الذاتية وما كتب حولها وعلاقتها بزوجها محمد رجائي، كشف لي عن معدن نادر في هذه الإنسانة. - ألم تخش ألا يجد القارئ رابطا ما يربط بين كل هذه الشخصيات؟ عندما فكرت في إصدار كتاب غير روائي، بحثت عن سياق يربط بين الشخصيات التي رغبت في التحدث عنها، ولم أجد سوي ملامح تلك الشخصيات الروائية التراجيدية، فهم أناس غير عاديين، اكتووا بشهوة التحقيق والتحقق، ولديهم مسحة من الجنون، ولم يهمهم كلام الناس، وهذه ملامح يمكن أن تحقق للقارئ متعة القراءة والاكتشاف. - ما رأيك في اعتبار البعض تجميع الكاتب لمقالاته أو دراساته ونشرها في كتاب جديد نوعا من الإفلاس الإبداعي؟ - أنا ضد تجميع المقالات ووضعها في كتاب، بل وأعتبر مثل هذا الأمر إفلاس وضعف وقلة حيلة، ولم أكن غافلا عن هذا، لكنني أؤكد أن هناك جوانب جديدة اكتشفتها في الشخصيات التي كتبت عنها، كما أنني أعتبر هذا الكتاب جزءا من مشروع أعمل عليه، وأتمني أن أحققه وهو إعادة اكتشاف وقراءة التاريخ الذي أنا مهموم به، وقد بدأت المشروع بكتاب "حد تو...سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية" الذي تحدثت فيه عن الحركة الشيوعية المصرية، وكتاب "ثمن الحرية" الذي توقفت فيه عند لحظات الحرية الكبري في القرن الماضي، كما أن التاريخ يمثل هاجسا كبيرا في أغلب الروايات التي كتبتها، مثل رواية "الروض العاطر" و"أوان القطاف" و"موسيقي المول". - علي ذكر كتابك "حد تو"، لماذا أصدرت كتابا عن منظمة لم تنضم إليها؟ - هذا صحيح، لقد كنت طفلا وقت وجود منظمة "حد تو" أو "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني 1947" وقد كتبت عنها لأنني اعتبرتها أحد أهم التنظيمات الشيوعية في مصر منذ الأربعينيات التي لعبت دورا ضخما في الحركة الوطنية المصرية، فكانت بوتقة انصهرت فيها أغلب التيارات الماركسية وخرجت منها أيضا أهم الانشقاقات، لكن السبب الأساسي هو أنني رأيت عشرات الرجال والنساء الذين قدموا تضحيات هائلة، من أجل قيام مجتمع حر وعادل، ولم تتحقق أحلامهم في النهاية. - في رأيك إلي أي منطقة وصلت التنظيمات والمؤسسات اليسارية حاليا، وماذا حدث لجيل السبعينيات؟ - كان عام 1972 بمثابة انتفاضة كبري قام بها اليسار حينما نزعوا غطاء القداسة عن وجه السلطة والنظام، وهو ما ساهم فيه بشكل جوهري أبناء جيل السبعينيات الذين تمردوا في مظاهرات عنيفة كان منها مظاهرات 18 و19 يناير 1977، ما حدث بعد ذلك هو أمر مازال غامضا بالنسبة لي، أي أن ينفرط عقد التنظيمات الماركسية وأن يصبح حزبا مثل التجمع أي شيء آخر إلا أن يكون حزبا سياسيا، وأن تصاب النخبة اليسارية بكاملها بهذه السكتة القلبية المفاجئة، كل ذلك أمر غامض بالنسبة لي، لكن ما أنا متأكد منه هو عجز النخبة والتنظيمات عن فهم المتغيرات العنيفة التي حدثت علي مستوي المجتمع وعلي المستوي العالمي، حيث فوجئنا بانهيار الاتحاد السوفييتي والأنظمة الاشتراكية ليس بسبب فعل استخباراتي غربي، ولكن بسبب القمع والجمود والفساد الذي اعتلا هذه الأنظمة، وما أنا متأكد منه أيضا هو وجود عجز نظري فادح في الأفكار، فكيف نقول أن هناك ما يسمي بديكتاتورية البروليتاريا، وكيف يمكن ألا نؤكد علي الجوانب المحترمة جدا في الديمقراطية وفي النظام البرلماني، نحن نحتاج لهذة نظرية عنيفة. - معني ذلك أن تلك التنظيمات الماركسية فقدت أي وجود حقيقي لها في الواقع؟ - لا أظن أننا نحتاج لتنظيمات ماركسية، بل نحتاج لتغيير القوانين والدستور لإتاحة الفرصة للجميع سواء كانوا ماركسيين أو غيرهم، هذا شيء مبدئي وأساسي لأنه للأسف جميع الأحزاب والتنظيمات الموجودة الآن ليست فاعلة خاصة مع السيطرة الأمنية القوية التي قد تؤدي لانفجار الوضع وهو ما أخشاه شخصيا. - نعود للكتاب: ما سر هذا الاهتمام الذي أظهرته لفترة الحكم العربي للأندلس؟ - أنا زرت إسبانيا عام 2000 وأتيح لي أن أري المدن العربية الكبري كأشبيلية وقرطبة، وكان مشهدا غريبا جدا،أن تري آثارا إسلامية وسط مشهد أوروبي قوي جدا، وهو ما أثار دهشتي وتساؤلي: كيف حكمنا تلك البلاد الجميلة عدة قرون، حدث خلالها اختلاط وامتزاج وتزاوج ثم انتهي كل شيء بتلك السرعة؟ - وما رأيك إذا فيمن يقول إنه كان احتلالا عربيا للأندلس وليس فتحا؟ - إذا نظرنا للاحتلال كمفردة يتم تداولها في العصر الحديث، فإن ما حدث في الأندلس كان احتلالا من جانب العرب، وهو أمر واضح تماما بالنسبة لي، لكني حينما أتأمل تلك الكلمة "احتلال" يبدو لي أنه خلال العصور الوسطي لم يكن العرب وحدهم هم الذين قاموا باجتياح العالم وفتحه واحتلاله، بل كان ذلك أمرا متكررا، ولم تكن هناك امبراطورية كبيرة إلا واجتاحت ما حولها كالتتار والعثمانيين والدول المملوكية الكبري وحتي الثورة الفرنسية في العصر الحديث، أي أن العالم مر بفترة تاريخية طويلة كان الفتح فيها هو التعبير الوحيد عن نشوء امبراطورية وكلما توسعت كلما ازداد شأنها. - هل تري أن الترجمة يمكنها أن تحل الآن محل عمل المستشرقين؟ - وفقا لإدوارد سعيد فإن الاستشراق هو نقل صورة نمطية اخترعها الغرب عن الشرق وراح يعيد إنتاجها فأصبح الشرق هو ألف ليلة وليلة، هو الجنس والشهوة والمخدرات، وقد قام فلوبير وجيرار دي نرفار باختلاق خرافات ونسبها للشرق، لكن الاستشراق لم يكن كله شر، فقد قامت مدرسة الاستشراق الألمانية بتحقيق ونشر عشرات المخطوطات التاريخية لابن إياس والمقريزي وأبو نواس والنفري وغيرهم، ومع ذلك مازالت مدرسة الاستشراق التقليدية باقية بل وتلعب دورا مهما في الترجمة، فهم الآن يبحثون عن موضوعات: النقاب والاضطهاد الديني والجنس، ومثل هذا النوع من الترجمة لا يمكنه أن يرأب الصدع ما بين الشرق والغرب. - أخيرا لماذا تصاب بالذعر حينما تتوقف عن الكتابة، وما هو عملك القادم؟ - لا يوجد كاتب لا يشعر بالذعر حينما يتوقف عن الكتابة، خاصة عندما يكون التوقف لفترات طويلة، والكتابة بالنسبة لي مسئولية كبيرة، وإذا لم أكن صادقا إلي أقصي حد (الصدق الفني) فلن أسامح نفسي فيما أكتبه، والآن، وبعد توقف عامين، أعمل علي رواية جديدة اسمها "شغل" أتتبع فيها الأشغال التي عمل بها طفل صغير كالبيع والعمل بمحل عصير قصب والعمل مكوجي وحمل جثث الشهداء، إلي أن كبر وعمل بالصحافة والسياسة.