كان الروائي الأمريكي الكبير جون شتاينبك، الذي غيبه الموت في العشرين من ديسمبر سنه 1968، واحدا من رموز وأعلام الأدب الإنساني في القرن العشرين، فهو الذي أضاف إلي التراث الإنساني أعمالا شامخة مثل عناقيد الغضب ورجال وفئران وشتاء السخط والكأس الذهبية والأتوبيس الجامح، وغير ذلك من الروائع الروائية الشامخة، التي تنتصر للإنسان وتجسد معاناته وتتغني بالمستقبل الأجمل والأنقي الذي ينتظره في مقبل الأيام. إبداعات بالغة الصدق والعذوبة والشجاعة، وبفضلها اكتسب شتاينبك شعبية طاغية تتجاوز حدود الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي جميع أنحاء العالم، الرؤي التي يعبر عنها تجعله في الصف الأول من الكتاب الديمقراطيين ذوي النزعة التقدمية، أولئك الذين تعرضوا لهجمات شرسة من الاتجاه المكارثي الذي يتفنن في مطاردة من يتوهم أنهم يساريون أو شيوعيون، منذ منتصف حقبة الثلاثنيات في القرن العشرين إلي بدايات النصف الثاني من الستينيات. ما الذي أصاب شتاينبك في سنواته الأخيرة؟ وكيف تحول داعية السلام والعدالة الاجتماعية إلي مؤيد للحرب الأمريكية الاستعمارية في فيتنام؟! كان التغيير الجذري مثيرا للدهشة بحق، ولم يكن مستغربا أن يطوله الذبول والترهل، بني شتاينبك مجده علي الانتصار للإنسان، وكان منطقيا أن ينطفئ التوهج باختلاف الموقف وتراجع القيم وتبدل الرؤي. من حق شتاينبك، وغيره، أن تتغير توجهاتهم وقناعاتهم وأفكارهم، ومن حق القراء بدورهم أن يميزوا بين قناعاتهم وأفكارهم، ومن حق القراء بدورهم أن يميزوا بين مرحلتين في رحلة الإبداع، لن يبقي من الروائي الأمريكي الموهوب إلا ذلك العطاء الذي يقدم شهادة بالغة الثراء عن واقع يمزج بين الفقر والحلم، أما عن الانكسار المريب الذي أصابه فإنه يستدعي تأملا ساخرا في روايته الفريدة ذات العنوان الدال، عن الرجال.. والفئران!