"تعددت دوائر المخابرات الإسرائيلية وتميزت بعدم الاستقرار"، هذا هو الحكم الموضوعي الذي يشرح بواسطته المؤلف الصحفي عبده مباشر الوضع العنيف والمتخبط والفاجر لأجهزة المخابرات الإسرائيلية بمختلف أشكالها وتطورات أقسامها والمنظمات التابعة لها، وذلك طيلة محطات مهمة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، متتبعا في كتابه "جاسوسية وجواسيس" دوافع حالة التخوين التي انتابت "الهاجاناه" ضد كل من يحاول أن ينقلب علي السلطة، حتي ولو كان إسرائيليا، إلي حد نشوب حرب أهلية استخباراتية في إسرائيل وفق اعتراف شاهد من أهلها. ويتضح عبر الفصول الأخيرة من كتابه الشيق والثري، إلي أي مدي تعدي دور التجسس الإسرائيلي حماية أمن إسرائيل، إلي التأسيس للصهيونية عبر الاقتران بالمنظمات الصهيونية حول العالم وتسهيل أعمالها أمنيا، خاصة خلال الإعداد لحرب 1948، وكان يطلق علي المخابرات التابعة للمنظمات اليهودية في فلسطين علي سبيل المثال اسم كودي هو "الفرقة السوداء"، هذا فضلا عن إنشاء شبكات واسعة لتجنيد اليهود الشرقيين والمقيمين في الدول العربية والجاليات اليهودية في روسيا ومصر وغيرهما. يجيب المؤلف عن سؤال تبدو إجابته منطقية، لكنه كثيرا ما تبادر إلي الأذهان، هل جهاز المخابرات الإسرائيلي هو الموجه العام لكيان الدولة، ويعتبر سلطة فوقية تهيمن علي باقي المؤسسات المدنية؟ مؤكدا وضوح وإيجابية سيطرة المخابرات في حرب يونيو 67 قبل تحرك القوات العسكرية، وفشل هذه السيطرة في أكتوبر 1973، واستمرارا في تأكيد مبدأ الحرب الأهلية بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية يوضح المؤلف ويشرح كيف اشتد الصراع بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية بعد حرب أكتوبر، نظرا لتحميل كل منها مسئولية الهزيمة. في عام 1930 تأسس المكتب السياسي الملحق بالوكالة اليهودية، والذي كانت من أوائل مهامه تكوين شبكات للتجسس تمتد فروعها إلي البلدان العربية. أما عام 1937 وما تلاه فهو الأهم والأسخن في تاريخ المخابرات الإسرائيلية، حيث ظهر جهاز مخابرات "الشين يود" أو "الشاي" أو "الهاجاناه" ورأسه موسي شاريت، وكانت مهمته جمع معلومات اقتصادية وسياسية عن الفلسطينيين، ومع الهاجاناه بدأت حلقات الطبيعة التآمرية للفكر الصهيوني، فقد امتدت نشاطات الشاي لتشمل التجسس علي اليهود أنفسهم، حتي أنه في عام 1947 مع بدء الاستعدادات لإعلان دولة الكيان الصهيوني، بدأت أجهزة مخابرات المنظمات الصهيونية في صراع داخلي، ويخبرنا مباشر بأن "الهاجاناه" حارب منظمتين تابعتين لها هما "ايتسل" و"ليحي" بواسطة عملية سميت بالمجازر الليلية النظيفة، فقد أعد الجهاز قائمة بأسماء 300 و400 رجل من رجال المنظمتين للقضاء عليهم بهجوم مفاجئ في ليلة واحدة، لكن الخطة فشلت. كانت العلاقة بين أجهزة المخابرات الإسرائيلية حربا بكل معني الكلمة، فالمؤلف يسرد واقعة رفض مناحم بيجن زعيم منظمة "الأرجون" وقتها للهدنة بينه وبين الهاجاناه خلال عام 1948، رغبة منه في استمرار صراع أجهزة مخابرات المنظمات الصهيونية، وصل الأمر إلي اتفاق الأرجون علي شحنة سلاح من الولاياتالمتحدة، أحرقها بن جوريون وهي في الميناء فور علمه بالأمر، وعندها علّق بيجن: "لقد كان باستطاعتنا أن نبدأ حربا أهلية، ولكننا أخذنا علي أنفسنا قسما بألا نستعمل السلاح ضد اليهود في أي حال من الأحوال". إلي جانب المخابرات الإسرائيلية الرسمية المعروفة، كانت هناك ما يسمي بمخابرات المنظمات السرية التابعة لبن جوريون، وكان لها دور بارز قبل 1948، وبعد إعلان الدولة الصهيونية، شكّل الهاجاناه جهازا مركزيا للمخابرات الإسرائيلية يضم ثلاث دوائر: المخابرات العسكرية والدائرة السياسية في وزارة الخارجية، وأخيرا الأمن الداخلي أو "الشين بيت"، لكن "صاحب الداء لا يبرأ منه"، ظلت جهود الجهاز الجديد تسخّر لمحاربة معارضي الحزب الحاكم، وهكذا أصبح أعداء الداخل أكثر من الخارج، وعلي حد تعبير المؤلف "انهمكت المخابرات الإسرائيلية في الشئون الداخلية للدولة، والصراع الحاد علي السلطة". يحكي المؤلف في فصل مستقل قصصا لجواسيس من داخل إسرائيل، ففي عام 1988، كشفت المخابرات الإسرائيلية مليونيرا يهوديا من أصل سوفيتي يدعي "شبتاي كلمنوفيتش"، يتجسس لحساب الاتحاد السوفيتي، ويصف مباشر ذلك الخبر بأنه أصاب أعلي طبقة اجتماعية في إسرائيل بالصدمة، لدرجة حظر تداول محاكمة الخائن إعلاميا، لكنها في الحقيقة لم تكن المرة الأولي، فقد تداولت الأوساط الإسرائيلية من قبل قضية جاسوس مهندس كان يعمل في فرع شركة الإسكان والتطوير في بئر السبع، ثم عام 1953 "فيكتور فيسجونوف" وهو جاسوس عمل موظفا للسفارة الروسية في تل أبيب، فضلا عن أهارون كوهين، والبروفيسور "كورت سيطه" عام 1954، و"يسرائيل بار"، وجميعهم كانوا عملاء للسوفييت.