وفّرت زيارة رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس (أبو مازن) الأخيرة لبيروت فرصة للحديث مجددا عن التوطين. هناك في لبنان من يريد التصدي للتوطين عن طريق المتاجرة بمآسي الشعب الفلسطيني، أي عن طريق المزايدات ليس إلا وكأنه لا يكفي الشعب الفلسطيني ما حلت به من كوارث كما حصل في حرب غزة الأخيرة. من يدخل في لعبة المزايدات تحت شعارات المقاومة والانتصارات الوهمية، ومن يشجع الفلسطينيين علي دخول اللعبة هذه، يسعي بالفعل الي التوطين كونه لا يريد التصدي للمشكلة الأساسية المسماة السلاح الفلسطيني في لبنان داخل المخيمات وخارجها. هذا السلاح لا يصب سوي في خدمة إضعاف الدولة اللبنانية وتأكيد عدم قدرتها علي ممارسة سيادتها علي أرضها. إنه الطريق الأقصر إلي التوطين في ظل انسداد أفق التسوية السلمية في المنطقة. هذا الانسداد لا يسمح للفلسطينيين سوي بالعمل الجدي علي بناء مؤسسات لدولة المستقبل علي أي شبر أرض يقع تحت سيطرة السلطة الوطنية. من يريد التصدي للتوطين لا يبيع للفسطينيين الأوهام، بل يعمل علي دعم المشروع الوطني الفلسطيني الذي يرمز إليه "أبو مازن". إنه مشروع الدولتين علي أرض فلسطين. أما الكلام بالمطلق عن حق العودة فهو كلام حق يراد به باطل. نعم، يجب أن يعود الفلسطينيون إلي أرضهم في إطار تسوية معقولة ومقبولة تسمح بها موازين القوي الإقليمية والدولية. موازين القوي هذه لا تسمح بإزالة إسرائيل من الوجود. موازين القوي يمكن أن تسمح بقيام دولة فلسطينية مستقلة "قابلة للحياة" في الضفة الغربيةوغزةوالقدسالشرقية في حال تبين أن إدارة باراك أوباما جدية في سعيها إلي تحقيق هذا الهدف المعلن. وهذا يعني أن عليها التصدي لحكومة بنيامين نتانياهو التي تراهن علي أن الفلسطينيين في حالة ضياع في المرحلة الراهنة. هل تفعل الإدارة الأمريكية ذلك؟ الاحتمال ضعيف ولكن لابد من الرهان عليها نظرا إلي غياب أي خيارات أخري وأن الدعوة الي المقاومة المسلحة تمثل في الواقع دعوة إلي السقوط في الفخ الإسرائيلي. من أجل التخلص من التوطين، لا وجود سوي لطريق واحد. هذا الطريق هو طريق الواقعية. ليس صحيحا ان الإسرائيلي انسحب من قطاع غزة تحت ضغط المقاومة المسلحة. الإسرائيلي انسحب من غزة لسبب في غاية البساطة. إنه لا يريد شيئا من غزة. كل ما يريده هو التخلص من غزة وإلقاء تبعاتها علي أي طرف آخر. ما العمل بقطعة أرض لا تمتلك أي ثروات طبيعية ولا تزيد مساحتها علي ثلاثمائة كيلومتر مربع يسكنها ما يزيد علي مليون ونصف المليون فلسطيني ولا مكان فيها سوي للبؤس؟ من يريد بالفعل القضاء علي التوطين في لبنان، يعمل من أجل إنجاح المشروع الوطني الفلسطيني الذي يحظي بدعم المجتمع الدولي بدل إطلاق شعار : لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات، الذي يخدم نتانياهو ومشروعه الاستعماري في القدس والضفة الغربية. هناك مشروع مضاد للمشروع الإسرائيلي يروج له "أبومازن" الذي يعرف قبل غيره أن من لا يريد تسوية ومن يريد استخدام الشعب الفلسطيني وقودا في الصراعات الإقليمية يقول بحق العودة من دون تحديد الي أين ستكون هذه العودة. لو كانت موازين القوي تسمح بتحقيق حق العودة، لكان كل عربي حقيقي يفرح بذلك وبإزالة الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني. المؤسف أن الموازين لا تسمح بذلك. إنها تسمح بإطلاق الشعارات الفارغة وتسمح باستخدام السلاح الفلسطيني من أجل إضعاف الدولة اللبنانية ومؤسساتها بدل التعاون معها من أجل توفير ظروف معيشية أفضل للاجئين الفلسطينيين في المخيمات الموجودة علي الأرض اللبنانية. نعم لحق العودة. حق العودة إلي الدولة الفلسطينية وحق العودة لعدد محدود من الفلسطينيين إلي أرض العام 1948 وذلك في شكل سنوي. هذا أقصي ما يمكن أن يصل إليه الفلسطينيون والعرب في حال التوصل إلي تسوية. هذا أقصي ما يستطيع تحقيقه من يريد بالفعل الخير للشعب الفلسطيني بدل دعوته الي الانتقال من كارثة الي اخري خدمة للمحور الإيراني- السوري الذي لا يري في الشعب الفلسطيني سوي ورقة ضغط تستخدم في عملية تحسين مواقعه في أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع الأمريكيين والإسرائيليين. آن وقت تسمية الأشياء بأسمائها. موضوع التوطين في لبنان ليس سوي ذريعة تستخدم ضد الدولة اللبنانية ومؤسساتها. من قلبه بالفعل علي الشعب الفلسطيني وسكان المخيمات يبدأ بالدعوة الصريحة إلي الانتهاء من القواعد الفلسطينية علي الأراضي اللبنانية، وهي قواعد تستخدم لنشر الإرهاب وتصديره إلي داخل لبنان. من يريد الخير لفلسطينيي لبنان يدعوهم إلي التخلي عن السلاح تمهيدا للاهتمام بهم من الزاوية الإنسانية. الشعارات لن تأخذ الفلسطينيين إلي أي مكان. كانت حرب غزة الأخيرة كارثة. كانت انتفاضة العام 2000 التي استخدم فيها السلاح سلسلة من الكوارث. فوضي السلاح في غزة خلقت كيانين فلسطينيين كل منهما مستقل عن الآخر. السلاح الفلسطيني في لبنان إساءة لكل فلسطيني ولبناني. هل من يريد أن يتعلم شيئا من تجارب الماضي، أم أن المتاجرة بالفلسطينيين تحت حجة محاربة التوطين عملية رابحة وأن الانتصار علي لبنان، دولة ومؤسسات، صار بديلا عن الانتصار علي إسرائيل؟