رسخ في ذهن الناس أن التطرف إذا أطلق يراد به التطرف الديني، ولكن الحديث هنا في هذه السلسلة ليس مقتصرا علي التطرف الديني وإن كان هو أسوأ أنواع التطرف، بل المقصود من هذه السلسلة مطلق التطرف الذي هو تجاوز حد الاعتدال، سواء كان ذلك باسم دين أو باسم شعارات أخري، وحديث هذا المقال عن التطرف الكروي، حيث إن حد الاعتدال في الكرة وغيرها من ألوان الرياضة هو الممارسة والتشجيع والمشاهدة بما لا يتعارض مع الواجبات والفرائض، أي أن الرياضة بصفة عامة وإن كانت مرغوبة مباحة ينبغي ألا تتعدي حدود الإباحة إلي نمط من الغلو يؤدي إلي مفاسد دينية ومفاسد أخلاقية ومفاسد اقتصادية وأخري سياسية، فالعقل السديد الرشيد يتعامل مع الرياضة بالاعتدال والوسطية علي أنها وسيلة لتقوية البدن وتجديد الدماء في العروق وتنشيط الذهن والقدرات بما يعود في النهاية علي الممارس لها بالنفع والخير، فإذا ترتب علي الممارسة شر وفساد تغير الحكم من الإباحة إلي الكراهة أو إلي التحريم علي حسب حجم المفسدة الذي نشأ من ممارسة الرياضة، فمثلا لعبة كرة القدم وهي حديث هذه الأيام بل غالب الأيام، لعبة كما هي في مسماها "لعبة" وبما أنها من اللعب المباح كيف صيرناها غاية من الغايات أو كفريضة من الفرائض تسخر لها كل السبل المادية والمعنوية والإعلامية حتي جعلنا لها خبراء ومفكرين، مع أنها لعبة من اللعب وإن كانت من أشوق الألعاب عند الجماهير الغفيرة، لكن ينبغي علي العقلاء وعلي الباحثين والراغبين في الوسطية والاعتدال أن يبحثوا في هذه الظاهرة المتطرفة والتي شاهدناها عبر أيام تجاوزت شهورًا، ثم نجم عن هذا التطرف واللعب علي عواطف الناس وتضخيم شأن المونديال أن أصاب كثيرًا من الشباب نوع من الاحباط والاكتئاب وما سبب ذلك إلا تجاوز حد الاعتدال والوسطية مما أضعف من أعصاب فريقنا القومي وزاد من تشتيت أذهانهم فكانت النتيجة غير مرضية، إذ كيف نحمل مجموعة من الشباب بجهازهم التدريبي مسئولية تحقيق حلم زعمناه لثمانين مليون مصريا، لا شك أن هذا الحدث أحد عوامل عدم التوفيق، أما عن ردود أفعال الفريق المنافس وكذلك جماهيره وإن كانت أفعالاً متطرفة وهمجية تجاوزت حدود الأدب واللياقة قد لا ألومه عليها ابتداءً وإنما اللوم والعتب علي أبناء وطننا الذين تفننوا في إسقاط كل منقبة لهذا البلد المنكوب ببعض أبنائه، إن البعض يتساءل لماذا هانت مصر علي العرب؟ والاجابة واضحة وضوح الشمس عند العقلاء الذين قلوا في بلادنا، فقد هانت مصر علي العرب لأنها هانت علي أهلها، فمن الذي أسقط العلامات المضيئة في تاريخنا المعاصر أليسوا هم من المصريين؟ من الذي صور مصر علي أنها امرأة ساقطة وكأس وبار ورشوة وسرقة وخيانة وعمالة؟! من الذي زعم أننا قد هزمنا في العاشر من رمضان؟ ألم يكن ذلك من صنيع مصريين لا يسألون عما يفعلون، من الذي تجرأ علي قيادات مصر السياسية والعسكرية أليسوا مصريين؟! من الذي قدم أهل الفن والمغني وأهل الرياضة ليكونوا هم النخبة الموجهة أليس من صنيعنا؟ من الذي زعم أن تصدير الغاز لليهود خيانة وعمالة؟! أليس نحن؟! من الذي صور للناس في مصر والعالم العربي أن معاهدة كامب ديفيد عمالة وخيانة، وأن ضبط الحدود مع فلسطينالمحتلة إنما هو خيانة عظمي وخدمة لليهود؟! ومن الذين يبحث عن فضائح مصر لينشرها؟! من الذي هتك أستار البيوت المصرية؟! من الذي تلاعب بعقول الشباب فصوروا لهم أن الغاية العظمي هي المونديال؟! كل ذلك وغيره كثير صناعة مصرية بأقلام مصرية، وحضور فضائي وإعلامي مصري وليس أجنبيا، لقد تعجب البعض من ردود الأفعال المتطرفة التي عبرت عنها جماهير جزائرية، وأنا أقول لهؤلاء المتعجبين أنتم الذين أسأتم إلي بلادكم وإلي رموزها وحولتم كل مواطن الفخر والانجاز إلي مواطن شجب ورفض وتشكيك فسقطت أو ضعفت هيبتنا بين أشقائنا وبين غيرهم. لقد تطاول أبناء مصر علي مصر وقياداتها وعلي انجازاتها فلم تلومون الجزائريين أو غيرهم أن تعاملوا معنا بهذه العجرفة وهذا التعالي الجاهلي، قل هو من عند أنفسكم يا معشر المصريين، إن أحداث كرة القدم المذكورة ينبغي أن تكون درسًا للنخب المصرية السياسية منها والدينية والعلمية لدراسة ما آل إليه حال مصر والمصريين سواء في داخل مصر بين المصريين بعضهم البعض أو في خارجها بينهم وبين غيرهم عربًا كانوا أو عجمًا، إنني قد سبق أن حذرت من مغبة الانفلات الإعلامي والانفلات الديمقراطي الذي إن ترك علي حاله فإنه ينذر بخطر جسيم بدأت إرهاصاته. إنني في هذا المقال بمناسبة تطاول بعض العرب علي مصر قيادة وشعبًا، أطالب بمحاكمات فكرية ودينية تعقد لها الندوات الفضائية لنرد علي المخالفين من داخلنا بكل حزم وعلم وحكمة وثقة، إنني أطالب بمحاكمة فكرية لمن ترك ليعبث بعقول المصريين والعرب، كما أطالب بمحاكمة من ملأ بعض الفضائيات ضجيجًا وعجيجًا وتشكيكا فيما تم إنجازه في العاشر من رمضان، وكذلك محاكمة شرعية لمن تبين ضلاله ومحاكمة كل من تورط فمدح الشيعة وإيران، ومحاكمة من سمموا عقول الناس، كما أطالب بمحاكمة شرعية ولدعاة المدرسة السلفية بالإسكندرية كما لا أنسي محاكمة كل قلم أسهم في التشكيك في الثوابت الدينية أو الثوابت الوطنية، حينئذ تنضبط الأفكار والسلوكيات ويدرك الناس حقائق الأمور فلا تتجاذبهم الأراجيف والأكاذيب، فيلتفون حول قياداتهم ويسددون ويقاربون ويتناصحون معهم ليكونوا علي قلب رجل واحد فيخشاهم أعداؤهم ويجبروا الآخرين علي احترامهم وتقديرهم.