فتحت مباراة مصر والجزائر ملفات كثيرة غير الملف الرياضي.. ونكأت جروحاً غائرة لدي المصريين داخل مصر وخارجها. وأعادت أسئلة قديمة لم نجد إجابات عليها برغم مرور سنين طويلة. وأيضا.. سجلت حالة من الصعود الإعلامي مصحوبة بصخب وإنفلات وتجاوزات كثيرة. وفي مقابلها ، حالة من الغضب الجماهيري تتأرجح مابين الاحساس بالاهانة وطلب ردها بكل السبل والوسائل السلمية إلي الرفض التام لبينان تاريخي سياسي، وشعبي أيضا، وأعتباره هواء وهراء والمطالبة بتغيير جذري لكل علاقات مصر والمصريين مع الأشقاء، واعتبار مصر بلداً يعامل كل الآخرين من نفس المنطلق بدون تقدير لأية روابط من أية نوع اقليمية، حضارية، دينية.. مابين الصعود الاعلامي والغضب الجماهيري خيط ممتد يمكننا اعتباره أكبر خيوط التفاعل بين الاعلام العربي ومشاهده في هذا العام الذي يوشك علي الانصراف.. فلم يحدث أن حظي حدث بكل هذا الوقت والاهتمام في عشرات القنوات والفضائيات العربية، وأيضا بكل هذا الجمهور المشارك من خلال الاتصالات، وليس القنوات التليفزيونية وحدها وإنما الاذاعية، والاعلام الورقي، أي الصحف، ثم الالكتروني، هل تحتاج مباراة كرة قدم لكل هذا؟ وهل يحتمل حدث طارئ كل هذا التحميل؟ وهل كنا غافلين عما وراء هذا الحدث وهذه المباراة.. بمعني آخر، وما هي معاييرنا في تقييم الحدث وإعطائه صفة تحدد مدي أهميته وقيمته؟ ثم ما هو عملنا وتخطيطنا للتعامل مع الحدث؟. خرجت بهذه المجموعة من الأسئلة وأنا أواجه فيضان ردود الأفعال من كل من أعرفه شخصيا، كروياً أم غير كروي، مسيس أم لايعرف شيئا في السياسة.. ذلك أن الحدث هنا، أي المباراة، برغم قلة شأنها إذا ما قورنت بأحداث كبري، أستطاعت أن تنقلنا إلي شأن آخر، غير قليل، حين انكشف المستور من سلوك الفريق الآخر الذي يلعب أمامنا، فريق الجزائر.. وحين أتضح لنا، من خلال كل هذه الوسائل الاعلامية، مالم نعرفه، وما لم نره، وما لم نستعد له.. هل كانوا جادين وكنا هازلين؟ هل كانوا غاضبين لدرجة تحويل الحدث الرياضي إلي موقعة شبه حربية .. وكنا رومانسيين غير مبالين بأية إشارات سابقة أو مؤشرات تدل علي ما سوف يحدث من فعل غير رياضي في مضمار رياضي؟ أتذكر ليلة ختام مهرجان الاعلام العربي بمدينة الانتاج الاعلامي بالهرم مساء الأحد الماضي، وقت توزيع الجوائز، وكيف كانت كلمة السودان تبدو شديدة الحميمية والدفء علي لسان بعض الفائزين وأيضا مقدمي الحفل تامر أمين ومريم أمين، كانت الايحاءات تعني أن نقل المباراة إلي السودان بمثابة نقلة في نفس الملعب، وأن السودان ليست بعيدة عن مصر، بل ربما ضمن حدود مصر لدي المصريين، كان التفاؤل واسعا يسود الجميع باعتبار أننا ذاهبون في نزهة إلي مكان قريب منا، وعائدون بالفوز، وأن هذا هو السيناريو الأكيد.. ولم نكن وحدنا وإنما آخرون لاحظوا هذا، من الأشقاء، داخل أروقة المهرجان وخارجه، فهل لم نلاحظ أبدا في هذا التوقيت قبل المباراة بثلاثة أيام أي حركة استعداد لفريق الجزائر في الاتجاه المضاد؟ وهل اعتبرنا أن ما نعتقده سوف يحدث علي طريقة أحلامك أوامر أن عشرات المشاهدين في كل القنوات الفضائية أبدوا قلقا شديداً من هذا الأمر تحديدا ، فإذا كان المواطن المصري طيبا هليهليا، وإذا كان المثقف المصري مجادلا رومانسيا، فماذا عن المسئول المصري الراصد لما يقال في صحف مثل الشروق الجزائرية التي تنشر أكاذيب عن القتلي من الجزائريين بيد الجمهور المصري في المباراة الأولي، وتواصل النشر ليرتفع توزيعها من مائة الف نسخة إلي المليون ونصف المليون وماذا عن السفارة المصرية بكل طاقهما في السودان، من السفير إلي حارس الأمن، وأين قرون استشعارهم في تصرفات علنية للإضرار بالجمهور المصري القادم للتشجيع والهتاف والغناء!.. وماذا عن الأجهزة الأمنية المصرية داخل مصر.. تلك التي تعاملت مع فريق ضيف ادعي كسر زجاج الباص ولم يحدث، وأعضاء وفد قذفوا بالتصريحات النارية في كل اتجاه.. أن هذه الأفعال، التي لم تتم من جانبنا، سهلت إيذاء هذا الجمهور الذي ذهب ليشجع بلده بروح لا تعرف الضغائن، ولكن جمهورا أوسع وأكبر تعرض للإيذاء حين جلس أمام الشاشات ليري ويسمع ما لم يتوقعه ويفكر فيه أبدا.. قبل المباراة وبعدها، وعن نفسي فقد اكتشفت عددا من الفضائيات التي لايراها أحد، أصبحت ذات جماهيرية، في يوم وليلة، بفضل هذا الحدث الذي يتجاوز كل الحدود، وتحول من مباراة إلي شبه حرب لا تبقي علي مشاعر ومواقف تاريخية وعلاقات تتداخل فيها الثقافة مع الاقتصاد، وأعود من جديد للأسئلة التي طرحتها، من أجل الأيام القادمة، والاحداث التي لم تحدث بعد، وما هي معاييرنا في تقييم الحدث الذي يرتبط بعدد كبير من المصريين أو يؤثر عليهم؟ وما هي أساليبنا في العمل والتخطيط لمواجهة هذا الحدث مبكراً والتعامل معه بجدية وأمانة واحتراف؟. وكم من الكوارث لابد أن تحدث بالطبع، في كل مجال وليست الرياضة فقط.. ولكن المطلوب الآن أن نؤمن بأنه لكل حدث مقامه، والسيناريو الخاص به مقدما.. فبعد واقعة 18 نوفمبر .. لابد أن نتغير..