قالوا لنا قديمًا عن الإعلام والصحافة، أنها كما قد تكون خادمًا أمينًا.. فإنها قد تكون سيدًا مرعبًا.. وفي الدستور المصري والتشريعات الصحفية والإعلامية، فإنها كما تحظي بحرية عظيمة فإن هذه الحرية ذاتها يجب أن تكون مسئولة، وهي تضطلع بمسئولية التعبير عن الرأي العام.. وعن الإسهام في صياغته وتكوينه وتوجيهه، ومن هنا بدت قوة الصحافة والإعلام في التأثير علي الرأي العام إيجابًا أو سلبًا، وتحقق هذه القوة أثرها علي قدر الإيمان بالرسالة التي يتحمل مسئوليتها قبل الناس والمجتمع قاطبة. وفي تطبيق عملي شاهد علي قوة هذا التأثير الإعلامي الكبير وهيمنته علي إرادة الناس وقد بلغ حد القوة الضاربة، ما شهده الشارع المصري حال تغطية مباراة كرة القدم بين مصر.. الجزائر خلال الأسبوع الماضي، إذ استطاعت وسائل التعبير المختلفة، المسموعة والمقروءة والمرئية، أن يصل تأثيرها البالغ علي الرأي العام في مصر في الداخل والخارج.. تأثيرًا كاملاً.. بحيث صارت قضية الكرة كأنها القضية القومية الوحيدة في مصر، حيث غطت البرامج والأحاديث والأخبار والحوارات التي شدت عقول المصريين جميعًا مهما بلغت أعمارهم وثقافاتهم.. وتوقف الحديث عن كل القضايا المصرية.. وفي كل شيء، واحتلت قضية مباراة كرة القدم دون غيرها الساحة المصرية المنتديات.. والشوارع والطرقات.. بين الناس قاطبة بحديث كرة القدم.. والمنتخب المصري.. ومباراة مصر والجزائر، فلم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت قضية مباراة الكرة المصرية! وأشهد أن كثيرين ممن ليسوا كرويين.. ولا تشغلهم كرة القدم.. قد وقفوا وتوقفوا عند الحديث عن مباراتي السبت.. والأربعاء، وما بينهما.. وكثيرًا منهم ممن لا تندرج اهتماماتهم حول كرة القدم، ولم يُدرجوا في قائمة مجاذيب الكرة.. أو حتي العقلاء منهم، قد رتبوا حياتهم بشكل حصري علي مشاهدة المباراة.. والانقطاع عن أشغالهم للمشاركة في الأحاديث وترقُّب النتائج.. كل ذلك تحت تأثير قوة الإعلام والتأثير في الرأي العام.. وتأثرًا بهم انفعالاً مع الأحداث المثارة والتي وجه إليها الإعلام الاهتمام والانتباه. وبالقطع فإن قضية كرة القدم، الفوز فيها أو الخسارة، حتي مع الاهتمام بها واعتبارها قضية شعبية، لا تصلح أن تكون بديلاً عن القضايا القومية، بل ولا يعني انشغالنا بها أن يغنينا عن الانشغال والاهتمام بالقضايا القومية الكثيرة، لكن يظل السؤال الهام، أين القضايا القومية وسط قوة الإعلام والصحافة؟! وأين مكانة هذه القضايا من قضية كرة القدم والمباريات، التي نعلم أنها لعبة مجنونة، وأن الأهداف فيها قد لا تأتي أو قد تأتي صدفة.. أو بضربة حظ.. فتنقلب الموازين رأسًا علي عقب، وتبعًا تنقلب القوة الضاربة للإعلام والصحافة، ويجعل من الاتفاق بين الناس علي هدف الفوز ضربًا من الرهان، وتنقلب القضية ذاتها وسط عالم المراهنات، كما تبلغ قوة الإعلام تأثيرًا كبيرًا حتي عند عدم الفوز إذ تنهض فتضمد الجراح.. أو تخفف الآلام بل وتجدد الأمل.. كما حدث في مباراة مصر والجزائر الأربعاء الماضي، وهي حسنة من حسنات الإعلام عندما يواجه المحن بالتفاؤل والأمل. تعالوا بنا أيها السادة نطبق ذلك الذي حدث من قوة وتأثير إعلامي صاخب، واهتمام بالحوار والنقاش والمشاركة، والوقوف علي قلب رجل واحد نحو تحقيق الهدف.. تعالوا بنا نطبق هذا الذي جري في قضية الكرة علي قضايانا القومية وهي قضايا بلغت من الكثرة والأهمية حدًا يفوق كل التصورات.. تعالوا بنا نحشد المواطنين والجهات ونشحذ همتهم.. ونرسخ ثقافة المشاركة الإيجابية في بناء المجتمع ومناقشة قضاياه مثل الأمية.. ومكافحة الفساد.. والتعليم.. والصحة والعشوائيات.. والإسكان.. وحاجات المواطنين الضرورية.. المهم أن قضايانا الأساسية وهي قضايا قومية، تحتاج منا قوة إعلامية مستقلة وحيادية تجمع كل الناس للاهتمام بها ونشر ثقافتها وهي بالقطع تمثل أولوية عن قضايا الكرة.. وتحتاج إلي قوة الإعلام.. في التعبير.. والتوجيه.. والصياغة.. والتنوير، ويجب أن تجد مكانها في قوة الإعلام وتأثيره.. وتجمع الناس علي هدف واحد. تعالوا بنا نضرب الأمثال عما يجري في مثل هذه القضايا القومية.. وكيفية معالجتها إعلاميًا مقارنة بما جري في قضايا الكرة.. حيث نجد الاتهامات لا تنقطع.. والتزوير في البيانات مستمر.. والإحباط وفقدان الثقة والأمل متصاعد.. وإثارة الخلافات وربما الصراعات صراحة أو من وراء حجاب لا تنقطع.. والنتيجة بطبيعة الحال.. أن ذلك كله يفرق ولا يجمع.. ينكأ الجراح ولا يضمدها.. يباعد في الفرقة والهوة ولا يقرّب، والحصاد في النهاية تفسُّخ بين أفراد المجتمع.. وانشقاقهم حول القضايا القومية.. ووسط كل هذا يفزع المواطن.. وفي أقل القليل يتوه وسط هذا الزحام الدائر الذي لا يكون إلا مدمرًا!! أو الفوضي التي لا يمكن أن تكون خلاقة! تعالوا بنا أيها السادة نأخذ من تجربة التأثير الإيجابي لقوة الإعلام، منهجًا حول معالجة القضايا القومية.. والاتفاق بشأنها.. وتوجيه الرأي العام والجهود نحو أهميتها.. ودعوته إلي المشاركة الإيجابية في معالجة قضايا المجتمع.. تمامًا مثلما حدث في الأسبوع الماضي حول مباريات كرة القدم.. فهل حقًا يمكن ذلك.. وهل عندما نبدأ بالإصلاح علينا أن نبدأ من الصحافة والإعلام.. أم ماذا؟ إنها حقًا قضية قومية تحتاج أن نضعها علي أولوية القضايا القومية بحثًا عن قوة التوجيه والإعلام نحو البناء والإصلاح!