في عام 1996 دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلي الاحتفال باليوم العالمي للتسامح في 16 نوفمبر من كل عام ، والعمل علي النهوض برفاة الإنسان وحريته وتقدمه في كل مكان ، وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب ، وهو ما جعل من مكافحة التعصب بكل أشكاله ركنا أساسيا من أركان عمل الأممالمتحدة منذ أكثر من 60 عاما. وفي عام 2002 أطلقت اليونسكو مبادرة "اليوم العالمي للفلسفة" ، ويتم الاحتفال بهذا اليوم في الخميس الثالث من شهر نوفمبر كل عام ، ويهدف الاحتفال إلي تشجيع تقاسم مختلف مصادر الإرث الفلسفي عبر العالم، وإثارة النقاش بشأن التحديات التي تواجه مجتمعاتنا الإنسانية ، فضلا عن الوعي بالتحديات المتصلة بالفلسفة نفسها، وأهمها تكريس التسامح ونبذ العنف والتعصب بمختلف أشكاله.... فما العلاقة إذا ، بين التسامح والفلسفة ؟ يدلنا تاريخ الفلسفة علي أن التسامح كان دائماً مقوماً أساسياً من مقومات التفلسف ، بقدر ما كانت الفلسفة هي أهم مقومات التسامح ، فاعتماد الشك في التفكير الفلسفي والأخذ بمبدأ نسبية الحقيقة والاعتراف بالاختلاف وبمشروعية الخلاف هو التسامح بعينه. يقول "فولتير" : "إننا جميعاً من نتاج الضعف ، كلنا هشون ميالون للخطأ . لذا دعونا نسامح بعضنا بعضاً ، ونتسامح مع جنون بعضنا البعض بشكل متبادل ، وذلك هو المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة". ونحن مطالبون من أجل تأصيل التسامح ، إلي تجسيد معطيات رئيسية في التعامل والتكامل مع الآخرين ، أهمها أن نصغي إلي الآخرين أياً كانوا بدافع التعلم منهم لا احترامهم فحسب، خاصة خصومنا وأندادنا. ان تعلم فن الإصغاء إلي الآخرين يعني ببساطة ذ كما يقول كارل بوبر في كتابه ( نحو عالم افضل ) - أننا راغبون في الدنو من الحقيقة واكتشاف أفضل أسلوب للعمل . " فقد أكون أنا علي خطأ وقد تكون أنت علي صواب ونحن عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني قد نصل سوياً إلي تصحيح أخطائنا ، وربما نصل معاً إلي مكان أقرب إلي الحقيقة أو إلي العمل بطريقة صائبة " . إن البحث عن الحقيقة ، أو الاقتراب منها ، واللاعصمة من الخطأ ، كلها تقود إلي موقف نقد ذاتي وإلي التسامح . فالمبدأ القائل : علينا أن نتعلم من الأخطاء إذا كان لنا أن نتعلم تجنب الوقوع في الأخطاء ، يعني أن إخفاء الأخطاء إذن هو الخطيئة الفكرية الكبري. ولما كان علينا أن نتعلم من أخطائنا ، فلا بد أن نتعلم أيضاً أن نقبل ذ شاكرين ذ أن يوجه الآخرون انتباهنا إلي أخطائنا ، وعندما نقوم نحن بدورنا بتوجيه انتباه الآخرين إلي أخطائهم ، فعلينا دائماً أن نتذكر أننا قد وقعنا نحن أنفسنا في أخطاء. إننا نحتاج إلي الآخرين لاكتشاف أخطائنا وتصحيحها ، وهم يحتاجون إلينا أيضاً .. وهذا يؤدي إلي التسامح . أن النقد الذاتي هو أفضل النقد ، لكن النقد من الآخرين ضروري ، بل يكاد أن يكون له نفس أهمية النقد الذاتي. بيد أن الفلسفة قد تنقلب إلي ايديولوجيا أو عقيدة إذا تخلت عن ممارسة "النقد" ، أو حين يترك الشك المنهجي مكانه لليقين المذهبي ، وتحل المطلقية محل النسبية ، ومن ثم تتحول الفلسفة من البحث عن الحقيقة إلي "تقرير" الحقيقة ، وعندئذ "يزول التسامح وينشأ اللاتسامح أو التعصب والعنف في الفكر والسلوك. فالبحث عن الحقيقة ليس هو البحث عن اليقين ، كما يقول بوبر . وفي مجال الفلسفة نحن نبحث عن الحقيقة وليس عن اليقين ، ولأن الخطأ الإنساني وارد ، ولأن المعرفة الإنسانية كلها ليست معصومة من الخطأ ، فإنها محل شك باستمرار . أن التسامح يوفر المناخ المناسب تماماً لتلاقح الأفكار وتخصيبها وتطورها ، ومن ثم الابداع والابتكار في الفكر.. يقول : " أن تحقق تقدم حقيقي في ميدان العلوم يبدو مستحيلاً من دون تسامح ، من دون إحساسنا الأكيد أن بإمكاننا أن نذيع أفكارنا علناً ، من هنا فإن التسامح والتفاني في سبيل الحقيقة هما اثنان من المبادئ الاخلاقية المهمة التي تؤسس للعلوم من جهة ، وتسير بها العلوم من جهة أخري" . ويفهم من عبارة "بوبر" أن التسامح ضروري بالنسبة للعلوم وتقدمها، وان هذه العلوم بدورها تكرس التسامح وتؤصله، لذلك كان من الصعب أن يتبلور التسامح بالمعني الحديث قبل القرن السابع عشر ، ولا يمكن أن نفهم ما ذهب إليه "لوك" أو "فولتير" مثلاً دون الأخذ في الاعتبار ثورة "نيوتن" ومن قبله "كوبرنيكوس" في مجال العلوم الفيزيائية والفلكية وما حققه العلم والفكر من تقدم، وعندئذ "أصبح الفهم العقلاني ممكناً". والعلم ينير العقل ويبدد أوهامه الكثيرة حول العالم، وحين نتعلم شيئاً جديداً عن العالم وعن أنفسنا يتغير مضمون فهمنا الذاتي، وقد قلب العلماء صورة العالم التي كانت تتمركز حول الأرض وحول الإنسان رأساً علي عقب، ومن ثم زعزعوا الكثير من المطلقات وبددوا العديد من الخرافات والتابوهات، التي هي أصل كل "تعصب" وضيق أفق وكراهية و"عنف".