لم تمض فترة طويلة علي إلقاء الرئيس باراك أوباما لخطابه في جامعة القاهرة، في يونيو الماضي، حتي تبددت الآمال التي علقتها عديد من الدوائر السياسية والشعبية في العالم العربي والإسلامي علي موقف أمريكي جديد من قضايا المنطقة وعلي رأسها القضية الفلسطينية، فإذا كان موقفه المعلن والمطالب بإيقاف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة قد استجاب لمطلب عربي مستمر عبر عقود، فإن الجولات المتعاقبة لمبعوثه في الشرق الأوسط، جورج ميتشل، قد كشفت تدريجيا عن عدم توافر إرادة حقيقية من قبل الإدارة الجديدة للوقوف بحزم أمام توجهات الحكومة الإسرائيلية إزاء هذا الملف خاصة، وعملية السلام عامة. وقد جاءت زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية للمنطقة في مطلع نوفمبر الجاري لتترجم علي أرض الواقع موقفا أمريكيا عكس في مضمونه عودة إلي تبني أساليب سابقة، متجاوزا بذلك أسلوب الخطابة الذي تبناه سيد البيت الأبيض، مما يضع استراتيجيته الخاصة برسم صورة جديدة لبلاده في العالم العربي والإسلامي موضع تساؤل في ضوء ما تم رصده من انحياز واضح وصريح إلي جانب المواقف الإسرائيلية انطلاقًا من حسابات أخري تتعارض مع استراتيجية الحوار والتعاون مع العالم العربي والإسلامي، وبين هاتين الاستراتيجيتين المتعارضتين اللتين سعت الولاياتالمتحدة لاتباعهما في وقت واحد، بدا المأزق الأمريكي في التبلور في الأسابيع الأخيرة ليصل إلي ذروته خلال جولة وزيرة الخارجية الأمريكية بالمنطقة في مطلع نوفمبر الجاري، ومن أبرز ملامح هذا المأزق ما يلي: 1 التوجه السلبي إزاء تقرير بعثة تقصي الحقائق حول حرب غزة، نهاية العام الماضي ومطلع العام الحالي، التي شكلها مجلس حقوق الإنسان، وعرف تحت مسمي تقرير جولدستون نسبة إلي القاضي الجنوب أفريقي اليهودي الأصل والذي ترأس اللجنة فعلي الرغم من حرص التقرير علي إدانة عمليات اطلاق الصواريخ من قطاع غزة علي أهداف مدنية إسرائيلية بغرض إضافة درجة من التوازن علي مضمونه المثقل بالاتهامات لإسرائيل والمشفوعة بالأدلة والبراهين القانونية، تماشت واشنطن مع موقف الأخيرة المناهض للتقارير والساعي إلي إجهاضه بجميع الطرق، وقد تمثل ذلك في مرحلة أولي في العمل من وراء الكواليس للعمل علي تأجيل التصويت عليه، ثم في مرحلة ثانية السعي إلي تخفيف مضمون قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر حوله بعدما تم إقراره بالفعل من قبل مجلس حقوق الإنسان في دورة استثنائية، خاصة في ضوء قرار الكونجرس الأمريكي الأخير الذي طالب الإدارة ببذل كل ما يمكن من جهود للحيلولة دون مناقشة التقرير في المحافل الدولية. 2 عدم تبلور موقف قاطع من الممارسات الإسرائيلية المتلاحقة في اتجاه تهويد مدينة القدس، والتي صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنها خارج نطاق أي تسوية، وكان من أبرز هذه الجهود في الفترة الأخيرة إعادة إنتاج ظاهرة استيلاء المستوطنين علي منازل فلسطينية في القسم الشرقي من المدينة، وتسارع وتيرة محاولات اقتحام المسجد الأقصي من قبل جامعات يهودية متطرفة بحماية الجيش الإسرائيلي، وما رافقها من اقتحام باحاته بالقوة المسلحة لإخراج من اعتصم داخله لحمايته. 3 الانكسار التدريجي في الموقف الأمريكي المعارض لاستمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي المحتلة بما فيها القدس، في مواجهة موقف إسرائيلي صلب تحدي علنا توجهات الرئيس أوباما، بل ومارس عليه ضغوطا قوية من خلال منظمات الضغط اليهودية النشطة داخل الولاياتالمتحدة ومع تبلور ملامح هذا المأزق، دفعت الإدارة الأمريكية بوزيرة خارجيتها إلي المنطقة للسعي لإيجاد وسيلة لحفظ ماء الوجه أمام العالم العربي والإسلامي، في عودة غير متوقعة، من قبل البعض، إلي الأسلوب السابق الذي عهدت الإدارات الأمريكية اتباعه والمتمثل في التلويح بأهمية البدء في المفاوضات والتي يمكن من خلالها تسوية جميع القضايا الشائكة، الأمر الذي يعيد إلي الذاكرة الجولات التي قامت بها سلفها تمهيدا لعقد مؤتمر أنابوليس، وما قطعته خلالها من وعود بأن جميع القضايا ستكون مطروحة علي طاولة المفاوضات بما في ذلك قضية الجولان السوري، وهو ما أمن للولايات المتحدة آنذاك مشاركة سورية، وإن كانت علي مستوي نائب وزير الخارجية، وإذا كان هذا التكتيك قد أمكن تمريره من قبل، فإن المعطيات الحالية تبرز صعوبة نجاحه مجددا في ظل مجموعة من المعطيات لعل أبرزها ما يلي: 1 عدم توافر امكانية فعلية لتأمين تماشي عربي إلي ما لا نهاية مع وعود أمريكية، أوضحت الخبرات السابقة، وآخرها تجربة أنابوليس، أنها غير قابلة للتحقيق لاصطدامها بالمواقف الإسرائيلية الرافضة لصنع السلام والمؤيدة فقط للإبقاء الشكلي علي عملية سلام تترك الانطباع بوجود ديناميكية في المنطقة. 2 عدم امكانية استمرار حالة اللاسلم واللا حرب في المنطقة في ضوء التحديات الإسرائيلية المتكررة للقانون الدولي (قضية المستوطنات) والقانون الدولي الإنساني (الممارسات والانتهاكات لحقوق الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال والتي تخالف اتفاقية جينيف الرابعة لعام 9491). 3 تضاؤل فرص تحقيق حل الدولتين في ظل استمرار الأنشطة الاستيطانية، حتي مع كبحها وفقا لتصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، ولعل أبرز الأمثلة علي ذلك هو إعلان رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية عن عدم رغبته للترشح لفترة رئاسة ثانية، معللا ذلك، من بين أسباب أخري، بالانحياز الأمريكي للمواقف الإسرائيلية، وأخذا في الاعتبار أن رئيس حركة فتح كان من يحمل لواء الحل التفاوضي والمؤمنين بامكانية تحقيق حل الدولتين، فإن إعلانه عن موقفه بعدم الترشيح للانتخابات يعني في حقيقة الأمر التعبير عن تضاؤل فرص نجاح خيار التفاوض، بما يفسح المجال أمام توجهات أخري أكثر راديكالية، قد تجد في التطورات الأخيرة، خاصة المواقف الأمريكية، دعما لها علي الساحة الداخلية والإقليمية، وحقيقة الأمر فإنه من الصعب فهم التصريحات الأمريكية التي تعلن عدم شرعية الاستيطان في وقت تبرر فيه عدم قدرة الحكومة الإسرائيلية التراجع عن بناء المستوطنات التي تعاقدت عليها لأسباب قانونية. 4 إن الشروط التي تضمنها خطاب الرئيس محمود عباس الأخير للوصول إلي تحقيق حل الدولتين، عكست في مجملها الثوابت الوطنية الفلسطينية التي تساندها جميع الفصائل الفلسطينية، وفي ظل تلاشي امكانية تلبيتها، في ضوء الطرح الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي لملامح السلام الممكن الوصول إليه، تبرز إلي العيان بوضوح حقيقة عدم توافر الظروف المناسبة للمضي قدما في ترجمة هذه الرؤية علي أرض الواقع، علي الأقل في المستقبل المنظور. وإذا كانت المعطيات السابق الإشارة إليها، وغيرها، تشير إلي مأزق عربي في الأساس علي اعتبار أن القضية هي قضية عربية، فإنها تكشف في الوقت ذاته عن مأزق أمريكي في ضوء الرغبة الأمريكية المعلنة في بدء صفحة جديدة مع العالم العربي والإسلامي من جانب، واحتمالات انزلاق المنطقة في أتون العنف والتطرف والمواجهات الأمر الذي ينعكس سلبا علي المصالح الأمريكية ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضا في بقاع أخري من العالم يتواجد بها لاعبون آخرون يناصبون الولاياتالمتحدة العداء، وسبق لهم وأن تنبأوا بعدم جدية نوايا الإدارة الأمريكيةالجديدة.