هل أصبح سماع الموسيقي تهمة في مصر؟ وهل حدث فرز جديد لمستمعي الإذاعة المصرية تأكد منه المسئولون عنها أن البرنامج الموسيقي لا يلائم الذوق المصري، ولا مؤاخذة، ولا يوجد من يسمعه وبالتالي أصبح من الضروري إلغاؤه أو تكهينه وتحويله لإذاعة كلام لا يكف مذيعوها ومذيعاتها عن الرغي وتبادل الاستظراف مع المستمعين؟ هذه ليست فورة غضب عاطفي لسماعي هذا الخبر، وقراءة ما كتبه الأستاذ أحمد صالح الناقد الكبير في يومياته بجريدة الأخبار صباح الجمعة، ولكنها تساؤلات حول دور الإذاعة المصرية في هذا الزمن الصعب بل ودور الإعلام المصري كله، بالتحديد الإعلام المرئي والمسموع الذي أصبح يحظي بالجمهور الأكبر في بلدنا العزيز بعد أن تراجعت معدلات قراءة الصحف لأسباب كثيرة ليس هذا مجالها. وأبدأ من نقطة مهمة هي وضع الإذاعة والتليفزيون الرسميين أو الحكوميين أو القوميين، وأعتقد أن التسمية الثالثة هي الأصوب، فاتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري هو جهاز قومي تملكه الدولة المصرية وليست الحكومة المصرية.. وبالتالي فإنه كجهاز للدولة لابد أن يمتلك بعدا قوميا شاملاً بمعني تعبيره عن جميع الآراء والأذواق في هذا البلد.. وأيضًا التزامه بأبعاد لا خلاف عليها مثل وحدة الوطن وتنميته، خصوصًا التنمية الثقافية والمجتمعية اللازمة لرفع مستوي أبناء هذا الوطن حضاريًا وإنسانيًا، وليس هناك دليل علي هذا النوع من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة أكثر من إذاعة وتليفزيون ال»بي. بي. سي الذي يطلق عليه بعض الخبراء إذاعة وتليفزيون الخدمة العامة وأتصور هنا أن هذا المفهوم يعني الأمانة والموضوعية والمصداقية معا، ويعني عدم التورط في مجاراة أساليب القنوات والشبكات التجارية، سواء من حيث المحتوي أو الشكل. وهنا أصل إلي علاقة الإذاعة والتليفزيون في مصر بما يخص الثقافة المصرية بكل تجلياتها، وهي علاقة طويلة وممتدة نتذكرها في بدايات الإذاعة حين كنا نسمع عن الأحاديث اليومية التي كانت الإذاعة تقدمها لكبار الكتاب والمفكرين مثل طه حسين والعقاد وغيرهما، والتي كانت تخلق صلة مباشرة بين المستمع والمفكر، وتضع بذور وقواعد علاقة متينة بين المواطن والأفكار المطروحة من مفكري عصره.. هل فكرت الإذاعة أن تكمل هذه المسيرة؟. وإلي أي مدي وصلت علاقة المفكرين بالمستمعين في مصر الآن؟ أما شأن الموسيقي والغناء فهو نموذج آخر لتذبذب علاقة الإذاعة بالمستمع، فقد أدرك المسئولون عن الإعلام ذات يوم، منذ عقود، أهمية الثقافة في بناء مستمع عصري متحضر الفكر وقادر علي استيعاب وفهم والتفاعل مع تيارات الثقافة المقبلة إلينا من العالم الخارجي، ربما كان هذا في الستينيات من القرن الماضي، أو قبلها، ولهذا انطلق البرنامج الثقافي في الإذاعة، والبرنامج الموسيقي، تغير اسم الأول إلي البرنامج الثاني ثم الشبكة الثقافية لكن تضاءلت ميزانيته وتراجعت موجاته ليصبح سماعه صعبًا علي من كان ملتصقا به. أما البرنامج الموسيقي فله حدوتة أخري، فقد استطاع أن يجذب عشاق الموسيقي الخالصة في مصر، وهم ليسوا المثقفين فقط، وليسوا من الأجانب أو الذين تعلموا في مدارس أجنبية مع الاعتراف بحقوقهم ولكنهم هؤلاء الذين تذوقوا موسيقي مختلفة عن الموسيقي الشرقية، والذين تخرجوا في معاهد أكاديمية الفنون، والذين ذهبوا إلي دار الأوبرا لحضور عروض فرق الأوركسترا والباليه العالمية التي تأتي إلي مصر دائمًا، ثم هؤلاء الأساتذة المصريون للموسيقي من رفعت جرانة إلي أبوبكر خيرت ثم عمر خيرت وغيرهم كثيرون من المؤلفين المصريين للموسيقي الكلاسيكية، ومن قواد الأوركسترا المصريين من يوسف السيسي إلي مصطفي ناجي إلي أحمد الصعيدي إلي نادر عباس وشريف محيي الدين وغيرهم، وأيضًا هذه الأصوات الذهبية التي تغني الأوبرا في مصر، وهذه الروائع المتعددة القوالب، عشرات العازفين المصريين الكبار يعملون الآن مع الفرق العالمية ومنهم أحمد أبوزهرة ابن الفنان الكبير عبدالرحمن أبوزهرة الذي جاء مع فريق أوبرا دريسدن الألمانية الكبير التي يعمل عازفا بها وغيره.. إنه تاريخ من الموسيقي والثقافة تراكم ليؤكد البعد الثقافي الكبير لمصر، فكيف بعد هذا نهدره بجرة قلم شخصي ما رأي أن البرنامج الموسيقي بالإذاعة أصبح موضة قديمة! أو أنه أصبح لا يصلح لمكالمات المستمعين الباحثة عن أغاني هيثم سعيد وسعد الصغير مع الاحترام لهما. لا أظن أن الأمور تؤخذ بهذه الطريقة في هذا الجهاز الإعلامي القومي الكبير.. لأن الشواهد غير ذلك، ومنذ عامين فقط، ألغت رئيسة جديدة لشبكة الإذاعات المتخصصة الفقرات الغنائية لعبدالوهاب وفريد الأطرش وعبدالحليم فغضب المستمعون والمستمعات وثاروا لأنهم شعروا أن بيتهم.. لم يعد بيتهم.. وأنه لم يعد أحد يحفل بهم في العالم، لا اقتصاديًا ولا اجتماعيًا.. ولا حتي غنائيًا وموسيقيًا.. الآن أعادت إذاعة الأغاني هذه الفقرات لكبار نجوم الطرب لتسعد الملايين من عشاقهم القدامي والجدد.. وهذا أمر مهم للغاية، لأن الاعتراف بالحق فضيلة، وخصوصًا حق المواطن في جهاز إعلام يخصه بالدرجة الأولي، وعلي المسئولين في هذا الإعلام، وفي الإذاعة التي توجد علي رأسها الآن إذاعية لديها حماس عظيم لتقديم الأفضل، وهي السيدة انتصار شلبي، عليهم أن يدركوا أن البعد الثقافي للإذاعة لا يمكن إغفاله أو إسقاط بعض أساسياته تحت أي حجة، وأن إذاعة الموسيقي هي العمود الفقري لبناء علاقة صحيحة ومحترمة بين الإذاعة والمواطن المصري الذي قد يبدأ بسماع أقل الأغاني فنًا لكنه مع الأيام وسحر الفن، يصبح أرقي كثيرًا حين يعتلي السلم الموسيقي ويقلب آمنا، بين إذاعات تقدم كل ألوان الموسيقي والغناء الجميل.