يقترب تعريف الإتقان من معاني الكمال، والاكتمال.. بمعني الخلو من الخطأ، والوصول إلي أعلي درجات الامتياز.. الإتقان إذا هو أن يقوم الإنسان بتقديم أفضل النتائج الممكنة في العمل الموكل إليه.. والمقصود بأفضل النتائج هنا هو أفضل النتائج عالميا وإنسانيا، بمعني بذل المجهود الأقصي للوصول للمستوي الذي يخلو من الأخطاء والعيوب، ولا يعلو عليه شيء.. ومن مشاكلنا التي تنشأ معنا في الصغر وتمتد لتصير ظاهرة عامة تكاد تقضي علي مجتمعنا وتمحو أمل التقدم والمنافسة بالنسبة لنا هي افتقارنا لكل معاني الإتقان.. وعلي الرغم من أننا في وقت سابق وعهد ليس ببعيد كنا نتميز علي مستويات مختلفة بالإتقان في حرف متنوعة ومهن متباينة، إلا أننا فقدنا في تاريخنا الحديث هذا التميز تماما.. وتتضح مظهر المشكلة في كل ما حولنا من أشياء وأعمال ومنتجات.. ولا نصل لمرحلة الإتقان في أي منها بل نكتفي غالبا بالمعرفة السطحية ونقف عند درجة قليلة من الإحتراف بسبب عدم إدراكنا لمبدأ الإتقان.. وينطبق هذا علي كل الأعمال والحرف، صغيرها وكبيرها.. بداية من الميكانيكي والسباك والكهربائي وعمال النظافة والخادمة، ومرورًا بعمال المصانع والحرفيين وأصحاب الأعمال اليدوية، ووصولا إلي المعلمين والأطباء والممرضات والمدراء.. ويرتبط عدم الإتقان بعدم التميز.. فلا نحن نعلم أبناءنا أن يتقنوا ما يعملوا، ولا نعلمهم أن يتميزوا في عملهم.. قد يكون النظام الجمعي الاشتراكي الذي ساد أجواءنا منذ الخمسينيات من القرن الماضي هو السبب في هذا التراخي، وانعدام التفكير في الإتقان والتميز، وغياب روح المنافسة تماما علي كل المستويات.. فلماذا تتميز وأنت سوف تأخذ راتبك آخر الشهر حتي لو لم تعمل؟ ولماذا تتقن وأنت سوف تتساوي مع زميلك غير المتقن وغير المنتج أصلا؟ وربما امتد هذا الفكر حتي للتعليم، فلم يصبح للتميز مكان في أعداد هائلة تنجح كلها وتلتحق كلها بالجامعات وتتساوي شهاداتها فيما بعد بدعوي تكافؤ الفرص والمساواة بين الجميع!! ومع امتداد هذا الفكر عبر عشرات من السنين، اندثر مبدأ الإتقان واختفي التميز الذي صار بلا داع.. واكتظت كل المجالات بكم من الناس لا يظهر بينهم المتقن من غيره وأصبح الاهتمام بالكم لا بالكيف وبكثرة الإنتاج لا بجودته وبعدد العاملين والدارسين وليس بقدرتهم علي المنافسة عالميا.. ولما ثبت عبر التجربة العملية أنها (إيديولوجية) عقيمة، ظهرت الحاجة مرة أخري إلي (الجودة) وتطبيق نظامها علي كل المجالات للوصول إلي المنافسة العالمية ولخلق مستوي عالمي لنا ولما ننتجه.. ولكن مشكلة إنهيار الإتقان هي العائق الأكبر أمام كل مشاريع الجودة التي نخطط لها ونملأ أوراقها ونتحدث عنها ونحاول أن نتعلمها ليل نهار.. ولأن خلق روح الإتقان من جديد ليس بالأمر السهل، ينبغي أن يبدأ التخطيط له وتنفيذه الآن حتي يأتي بثمر بعد أجيال.. هل نكف عن قبول المستوي الأقل (minimum level) ونرفع مستوي النجاح؟ متي نعدل المقاييس لترفع المتقن وتعلي المتميز؟