تروي الصحف اليومية في دورياتها المعتادة، عن غريمين مشغولين، أحدهما يدعي شوبير والآخر يشبهه في كل شيء، ولكنه يدعي مرتضي، وهما غير الغريمين الشهيرين أحمد شوبير ومرتضي منصور، وأن كليهما يستخدم الموسوعة ذاتها التي تدل علي الحضيض اللغوي الهابط، إلي آخر قاع، وكليهما لا يمكن تصديقه، ليس لأنه كاذب ولكن لأنه ليس صادقا، الاثنان لاعبان من ألعبانات زماننا، والسيرك الذي يعملان فيه واحد، وتفاوت مهارتيهما سببه تفاوت ارتفاع الصوت وموضوع الميكروفون، أحدهما اختار حبل السلطة ليلعب عليه كحارس مرمي سابق، والآخر اختار الحبل ذاته ليبرمه كقانوني سابق، والاثنان قررا أن تقوم لغتهما المشتركة مقام ذاكرتنا اللغوية، وتمحوها، مما يستوجب عقابهما معا، لأننا كنا في الأزمنة الماضية، نظن أن اللغة، كل لغة، هي الأرض والفردوس والحبل السري، هي الأم، وأن إهانتها أشبه بإهانة الأم، أشبه بتحويل القداسة إلي عهر، أيام حياة الكاتب محمد مستجاب، كنت أتحاشي غشيان مجالسه، لأن سخريته تخرج علي الصفاء وتتعلق بالجلافة، ولما شتمني شاعر من أصدقاء مستجاب وأصدقائي، لما شتمني بعضو أمي دعابة، كأنه يتودد إلي، قاطعته لمدة عام، وذات لقاء مع الشاعر نصار عبد الله تنادمنا وتنادرنا وتندرنا، وحكيت له علي خصومة مع صديق سبني بأمي، فقال لي نصار: لو حدث ذلك معي، ما قاطعته، لأن أمي لا يعرفها هو ولا يعرفها غيره، ولأنها فوق الجميع، فالأم التي يشتمها أم مجردة، أم غير حقيقية، أم افتراضية، ولم أقتنع، ولذلك ما زلت أتمني أن تظل اللغة أمي، وألا يهينها أحد، إلا أن بعض المهرة من الكتاب والشعراء والسياسيين أبلغوني، أن اللغة أصبحت امرأة غريبة، يمكن أن تراها متبرجة، أن تراها عاهرة، أن تراها ذات نقاب، ولم يعد المثقفون حراس اللغة، لأنهم أصبحوا لا يهتمون بألسنتهم التي تنطق، أكثر من اهتمامهم بأيديهم التي تمتد وتأخذ، هكذا حالنا جميعا في كل أزمنة الانحطاط، وهكذا أيضا أصبحت اللغة بلا حراس، وأصبحت حياتنا متخمة بالجلافة، بعد أن كانت مليئة بها فقط، يحكي أن الفائز بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية تعرض لحملة هجوم من خصوم متفاوتين في ميولهم وأهوائهم، خصوم دينيين حسبوه يهجو دينهم، وخصوم علمانيين حسبوه يهين العلم باعتماد الشطارة منهجا، الفائز اهتم بالأولين ذكاءً وتجاهل الآخيرين ذكاءً أيضاً، وكلهم، الأولون والأخيرون شككوا في جدارته واستحقاقه لتقديرهم ولتقدير الدولة له، فملأ فمه بكلمات منفوخة، لم يسبق لمثقف أن فكر في استخدامها، لأنها تنفي عن المثقف صفة المثقف، وعلي الملأ وفي التليفزيونات والصحف والراديوهات، وفي الشوارع والحارات، أخذ يهدد ويزعم أن عشرين ألف علماني معلّقون في رقبته، بينهم علي الأقل خمسون كاتبا، كلهم من رعاياه، وأنه لن يتخلي عنهم، كي لا يفقدوا حاميهم الفعلي والرمزي، أبانا الذي في الجوائز، أما الخصوم، فهم أغبياء، ثم قال: سأمحوهم، سألقي بهم في البحر، تركتهم يقولون كل ما عندهم، حتي أفرغوا وفرغوا، وأنا الآن من سيقول ويعلّم ويربّي ويحاسب ويعاقب ويراقب ويسامح، ويحكي أن رساما سكندريا ترك الرسم علي الحافة وقرر أن يرسم وجهه علي جسد العالم، ولم يجد مدينة تليق برسم وجهه غير باريس، وهناك استقبلوه وأبلغوه: يا سيد، اذهبْ إلي مبني اليونسكو، المدير انتهت ولايته الثانية، حاول أن تحل محله، وارسمْ وجهك علي جدران المبني، ولأن ريشته لم تكن موهوبة في الرسم علي الورق والقماش والخيش، حيث أصابعه لا تلمس قلب الأشياء، فإنها ذأي ريشته- ظلت غير موهوبة في الرسم علي غير الورق والقماش والخيش، لذا عاد إلينا بلا ولاية يتولاها، وبلا وجه نراه ونتأمله، قيل إنه لم يحتفظ من وجهه بغير فمه ولسانه، وفي مطار القاهرة، عقب الرجوع، ملأ فمه بكلمات منفوخة، لم يسبق لمثقف أن فكر في استخدامها، وعلي الملأ، وفي التليفزيونات والصحف والراديوهات، وفي الشوارع والحارات، أخذ يهدد ويزعم، أن حدود إسرائيل ستنكمش للمرة الأولي أمام خطواته، حتي تصبح كيانا قزماً، أبانا الذي في الوزارة وقال: أنا الآن من سيقول ويعلّم ويربّي ويحاسب ويراقب ويعاقب ويسامح، ويحكي عن مولانا الشيخ طنطاوي ليس بصفته شيخ الأزهر ولكن لأنه شيخ من زماننا، يحكي أنه زار مدرسة بنات وفاجأ فتاة بسيطة توهمت حقها المطلق في ارتداء نقاب يقيها عيون الشيخ وحاشيته، للعلم أنا ضد النقاب والحجاب وإن كنت مع حرية الآخرين، المهم، أمرها الشيخ بخلع النقاب، ولما فعلت، قال لها: "ماذا لو كنت حلوة" ذهذا تحريف فصيح لقول عامي بشع- ومنذ سنوات كانت صحيفة الحياة الدولية قد نشرت خبرا عن أن الشيخ وافق علي إجراء حوار مع صحفي سبق أن هاجمه، ولما قدم الصحفي، أغلق الشيخ مكتبه، وخلع حذاءه واعتدي عليه بالسباب والضرب، وفوجئ معاونو الشيخ بالصحفي يفتح الباب ويجري والشيخ يتبعه: يا ابن الكلب، يا ابن الكلب، مدد يا شيخ طنطاوي مدد، يقول تروتسكي أحد زعماء الثورة الروسية المغدورة: التهذيب بشكل عام، منعدم الوجود عندنا، بالمقابل لدينا من تلك الفظاظة الموروثة من الماضي، ما يفوق حاجتنا بكثير، لكن هنا لا تكون الفظاظة دوماً واحدة، فهنالك الفظاظة المحضة، فظاظة الفلاح الروسي الفقير، إنها تفتقر طبعا للنعومة، غير أنها لا تجرح ولا تذل، هذه الجلافة تصبح غير محتملة، ولا تطاق، وموضوعيا رجعية، عندما يستخدمها أدباؤنا الشباب لتحقيق فتح فني مزعوم، إلي جانب هذه الفظاظة التبسيطية، هناك جلافة ثورية خاصة، جلافة الطليعة، الناجمة عن التململ ونفاد الصبر، عن التحرق إلي القيام بما هو أفضل، وأيضا عن التوتر العصبي، وهي جلافة تفتقر إلي النعومة، ونحن نحاربها، علي الأصح نحارب شكلها القاسي، هناك أيضا جلافة الغني النبيل، التي تأتينا من أيام العبودية والمشبعة بدناءة كريهة، جلافة تقوم علي لا مبالاة مطلقة بالأفراد وبعملهم، يقول تروتسكي: في سائر الأنظمة الديمقراطية المتحضرة، تكون البيروقراطية في خدمة الشعب طبعا، وهذا لا يمنعها من أن تشكل فوق الشعب طبقة مهنية مغلقة وثيقة التلاحم، تقدم فعلا خدماتها إلي وجهاء الرأسمالية وعظمائها، أي تزحف أمامهم، وبالمقابل تقف موقف التعالي، والازدراء، تجاه البسطاء، وتعاملهم وكأنهم أشياء، لكن في الديمقراطيات المتحضرة، انتبه المتحضرة، يتم تغليف ذلك بالتهذيب واللطف، أما إذا اقتضت الحاجة، فإن قبضة الشرطي تفقأ بلا أي صعوبة حجاب التهذيب، في هذه الديمقراطيات المتحضرة، استغلال الإنسان للإنسان لايزال قائماً، لكن شكله هو الذي تغير، فقد أضحي أقل فظاظة، يقول تروتسكي: إن الثقافة الروحية تحتاج إلي مكافحة جلافة الأسلوب وفظاظته، حاجة الثقافة المادية إلي مكافحة القذارة والقمل، لما تولي صديق ذسابقا- رئاسة جهة ثقافية وكان أستاذ جامعة، زرته في مكتبه، وفي أثناء جلوسي، نادي بعض عامليه، وأخذ يستعرض سلطاته بشتائم (أنت غبية، أنت حمار)، علمت فيما بعد أنه يعوضهم عن الشتائم بمكافآت سخية، وأنهم يحبونه، هذه بعض جلافة الموجيك (الفلاح الروسي الفقير)، وبعض عقد نقصه إذا أصبح من السادة، يحكي ابن إياس في كتابه النجوم الزاهرة، أن السلطان قلاوون أقام احتفالاً بمرور مائة عام علي إنشاء دار الحكمة، ودعا الشعراء والكتاب، الجواهري قرأ قصيدة عصماء، والقاضي الفاضل قال له: يا مولانا أنت تعيد علينا صورة خالد ابن الوليد وسعد ابن أبي وقاص وصلاح الدين، فأجابه قلاوون: اسكت يا فاضل، لقد جعلت رأسي مثل الملوخية، يحكي ابن إياس أيضا، ويؤيده القلقشندي أنه لما قام أحد عمال قلاوون بتبديد الأموال التي سحبها من بيت مال المصريين، في سبيل الحصول علي منصب فخيم لدي الخلافة العباسية ببغداد، وبعد جهود شاقة، فشل العامل في مساعيه، وعاد إلي حاضرة البلاد، فاستقبله قلاوون وواساه، وهوَّن عليه: اسمعْ قولي هذا، ارم كلِ شيء وراء ظهرك، انفرجت أسارير العامل، وظل يردد العبارة، في كل مكان يصل إليه، حتي فقد عقله، ورؤي في الأسواق، وقد كتب العبارة علي جلبابه وجبهته، ويروي ابن إياس أن بسطاء المصريين دون غيرهم، أهانهم استخفاف الحكام باللغة، وطلبوا من الخطاطين أن يملئوا حيطان المدينة بعبارة واحدة: يجب أن نناضل من أجل تهذيب أسلوبنا، أبانا الذي مثل سوسنة في الحقول.