في يناير سنة 1934 فوجئ الوسط الصحفي المصري بإنشاء وكالة أنباء عربية اسمها وكالة الشرق - شركة تلغرافية لإذاعة الأنباء السياسية والاقتصادية والمالية. بطبيعة الحال لم يكن معروفاً في ذلك الوقت أن هذه الوكالة كان وراء إنشائها الدائرة السياسية للوكالة اليهودية وأن الذي أنشأها ناحوم فيلنسكي عميل الوكالة اليهودية في القاهرة!! والآن وبعد 75 سنة من إنشاء هذه الوكالة أتيح لنا أن نعرف وبدقة ومن خلال الوثائق الإسرائيلية نفسها قصة هذه الوكالة! وذلك من خلال البحث المهم للأستاذ محمود محارب بدائرة العلوم السياسية بجامعة القدس وصاحب الدراسة المتفردة التي نشرتها له مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها الأخير وعنوانها المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية 1936-1939. يقول الباحث محمود محارب: في سياق السعي لاختراق الصحف العربية والوصول إلي الرأي العام العربي أسست الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في القاهرة وكالة أنباء باللغة العربية أنشأها ناحوم فيلنسكي وأطلق عليها اسم وكالة الشرق - شركة تلغرافية لإذاعة الأنباء السياسية والاقتصادية والمالية. ومنذ إنشاء هذه الوكالة ظلت الوكالة اليهودية تزودها بالمواد الصهيونية الدعائية الإعلامية لنشرها وتوزيعها، وخصوصاً علي الصحف الصادرة في البلاد العربية! وكان موشيه شرتوك الذي أصبح رئيساً للدائرة السياسية للوكالة اليهودية في عام 1933 قد طلب من ناحوم فيلنسكي مسئول وكالة الشرق ضرورة الانتباه وأخذ الحيطة والعمل بحذر وإخفاء العلاقة كلياً بين وكالة الشرق والوكالة اليهودية والتظاهر بالحيادية وإبراز الأرقام والحقائق فيما يتعلق بتطوير المشروع الصهيوني وذلك كي لا تتعرض وكالة الشرق للمقاطعة من جانب الصحافة العربية. وقال موشيه - شرتوك الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية ورئيسا للوزراء تحت اسم موشي شاريت!! علينا إغواء ونيل رضي الصحف العربية بتزويدها بأخبار مثيرة وحيوية متعلقة بما يحدث في عالم الشرق الأوسط السياسي لكن عندما نكون معنيين بتحويل موضوع ما إلي موضوع مثير فإنك ستقوم بذلك بحذر وتكتيك كما تصرفت حتي الآن!! وفي نفس الوقت وضع ناحوم فيلنسكي نصيب عينيه هدفاً سياسياً كبيراً حسب ما ذكره في أحد تقاريره وهو منع قيام جبهة عربية موحدة ضد الصهيونية وذلك بإيجاد شرخ واسع بين الحركة الوطنية الفلسطينية والأقطار العربية وبخلق مصاعب أمام الحركة الوطنية الفلسطينية في الشرق كافة. وفي ضوء تمسك قادة الصهيونية المستمر بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين علي حساب الشعب الفلسطيني وكذلك تعاظم تدفق الهجرة اليهودية إلي فلسطين في تلك الفترة والرفض الصهيوني الدائم لاستقلال فلسطين، وفي ضوء ازدياد التعاطف الشعبي العربي مع الشعب العربي الفلسطيني اقترح ناحوم فيلنسكي القيام بحملة سلام إعلامية في الصحف العربية لترويج انطباع عن الصهيونية في الرأي العام العربي مغاير لماهيتها ومتناقض مع أهدافها لإظهارها كأنها تحب السلام وتسعي لتحقيقه! واقترح فيلنسكي في تقريره إلي موشيه شرتوك الشروع في هجوم سلام كبير وذلك عبر نشر مقالات في الصحافة اليهودية في فلسطين تدعو إلي السلام مع العرب كي تقوم بعد ذلك وكالة الشرق بترجمتها ونشرها في الصحافة في الأقطار العربية. واعتقد ناحوم فيلنسكي أن هذه الحملة يجب أن تتوجه إعلامياً ليس إلي الفلسطينيين فحسب، بل أيضا إلي البلاد العربية التي يمكن أن تتأثر بها وكذلك إلي الدوائر الأوربية المهتمة بفلسطين. وهكذا استمر نشاط وكالة الشرق أعواماً طويلة زرعت خلالها المعلومات الهادفة إلي الإساءة إلي الحركة الوطنية الفلسطينية وإلي إيجاد الصراعات العربية - العربية وتغذيتها، وإلي غرس أوهام بشأن سعي الصهيونية لتحقيق السلام. علاوة علي ذلك فإن كثيرين من قادة جهاز الاستخبارات التابع للوكالة اليهودية خلال زياراتهم المتعددة للعواصم العربية في تلك الفترة وفي مقدمتهم إلياهو ساسون وإلياهو ابشتاين استخدموا صفة مراسلي وكالة الشرق للتغطية علي عملهم التجسسي ضد العرب!! وللأسف فإن دراسة الأستاذ محمود محارب لم تتوسع في هذه النقطة واكتفت بهذه الإشارات القليلة ذات الدلالة البالغة. ونعود إلي تقرير ساسون الذي أرسله من بيروت في ديسمبر 1938 إلي موشي شاريت حيث أخبره أنه نجح في نشر خمسة مقالات في صحف عربية تصدر في بيروتودمشق وقد أرفق بتقريره نسخاً من هذه المقالات. وذكر ساسون أنه نشر مقاله الأول في صحيفة بيروت والثاني في صحيفة لسان الحال الصادرة في بيروت علي شكل تقرير من فلسطين تناول مقتل شرطيين عربيين مسيحيين بالقرب من عكا، وذلك بهدف إثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، ثم المقال الثالث فنشره ساسون في صحيفة فتي العرب التي تصدر في دمشق والمقال الرابع في صحيفة صوت الأحرار علي شكل تقرير من القدس وحاول إثبات أنه لا طريق أخري أمام العرب لحل القضية الفلسطينية سوي التفاهم مع اليهود أو قبول تقسيم فلسطين. أما المقال الخامس فنشره في صحيفة البلاد تحت اسم مستعار كناشط سياسي عربي فلسطيني يسكن في بيروت ونسب المقال سلبيات وعيوباً كثيرة في القضية الفلسطينية وعدم كفاءة القيادة الفلسطينية وعدم تحلي هذه القيادة بالشجاعة والتفاوض مع الوكالة اليهودية. وأشار ساسون في نهاية تقريره إلي أنه نشر منذ قدومه إلي بيروت حتي الآن ثمانية مقالات وأنه مازال هناك عشرون مقالاً آخر يأمل بنشرها خلال أسبوع!!