مثل الانتهاء من إعداد تقرير لجنة التحقيق التي شكلها المجلس الدولي لحقوق الإنسان حول الحرب الإسرائيلية الأخيرة علي قطاع غزة وما رافق ذلك من مواقف متعددة طالت مضمونه وتوصياته، عناصر لملف جديد يخضع للبحث والتحليل، يتصاعد الجدال حول مضمونه والمواقف منه، بدلا من أن يكون مدخلا لتحرك فعال يكرس مفاهيم تحقيق العدالة والتصدي لظاهرة الإفلات من العقوبة والابتعاد عن سياسة المعايير المزدوجة علي الساحة الدولية، وهي المفاهيم التي بررت استحداث هذه الآلية الجديدة علي المستوي الدولي. وعلي الرغم من أن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع يتصف بالحساسية العالية لتعارض المواقف، وتبادل الاتهامات بين العديد من الأطراف، فإن الهدف الرئيسي لهذا المقال هو وضع الجدل الفلسطيني الذي دار حول قرار إرجاء التصويت علي هذا القرار في إطار نظرة شاملة للمصالح الفلسطينية العليا، ومدي تأثر ذلك بالصراع المحتدم بين القوي السياسية الفاعلة علي الساحة الفلسطينية، بل وتأثيره كذلك علي الجهود المتواصلة لتجاوزه والتوصل إلي قواسم تسمح بانطلاقة جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني، وفي هذا الصدد قد يكون من الضروري الإشارة إلي محورين رئيسيين يلزم أخذهما بعين الاعتبار: الأول: إن موضوع التعامل الدولي الجاد مع الحرب الإسرائيلية علي قطاع غزة في ديسمبر 2008، وما تم رصده خلالها من انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1948، كان مطلبا أجمع عليه الفلسطينيون بجميع فصائلهم، شأنه في ذلك شأن موضوع إعادة إعمار القطاع، الأمر الذي ارتقي به إلي مصاف المصالح الفلسطينية العليا، في ضوء تركيزه الأضواء ليس فقط علي ممارسات قوة الاحتلال أثناء حرب ميدانية دامت قرابة ثلاثة أسابيع سبقها حصار جائر وعقوبات جماعية لمليون ونصف إنسان يعيشون في ظل الاحتلال، ولكن أيضًا لفتحه الباب لمحاسبة الاحتلال عن جميع الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب الفلسطيني علي مدار ستة عقود، بشكل يعيد إسرائيل إلي وضعية عضو ملتزم في الأممالمتحدة يلتزم بالتعهد الرئيسي الوارد في ديباجة ميثاقها التي تؤكد ضرورة تجنيب الأجيال المقبلة ويلات الحروب. الثاني: أن إطلاق عملية جدية لصناعة السلام تلبي الثوابت الوطنية الفلسطينية، يأتي علي رأس قائمة المصالح الوطنية العليا، وأن الفاعل الدولي الرئيسي في هذا الخصوص يتمثل في الولاياتالمتحدةالأمريكية خاصة في ضوء التوجهات الجديدة لإدارة الرئيس أوباما، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلي أن إقرار مجلس حقوق الإنسان للتوصيات التي توصل إليها القاضي جولدستون، كان من شأنه أن يضع مفهوم التغيير الذي رفعته إدارة الرئيس أوباما علي المحك، وذلك من خلال موقفها من التصويت عليها ليس فقط في مجلس حقوق الإنسان، ولكن أيضًا في مجلس الأمن، في حالة ما لم تقم الأطراف المعنية بتشكيل لجان تحقيق في الانتهاكات التي تضمنها التقرير وتقديم مرتكبيها للمحاكمة.. ومما لا شك فيه أن مجريات الأمور منذ تولي الإدارة الديمقراطية زمام السلطة في واشنطن تشير إلي أن رياح التغيير لم تطل -عمليا- ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأن الإدارة أثبتت -حتي الآن- عدم القدرة علي ممارسة الضغط المطلوب علي الحكومة الإسرائيلية لترجمة آمال التغيير علي أرض الواقع.. وفي هذا السياق فإن أية مشروع قرار يتم طرحه علي المؤسسات الدولية الفاعلة ويتعرض بشكل مباشر للقضية الفلسطينية أو أحد أبعادها سيضع الإدارة الأمريكية في موقف حرج شديد قد يسفر عن تآكل مصداقيتها التي تسعي إلي استعادتها -من خلال التغيير في الأسلوب- دون أن يصل ذلك إلي التغيير في الجوهر.. وبالنظر إلي هذين المحورين يمكن القول إن المصلحة الفلسطينية الهادفة إلي محاسبة مرتكبي الجرائم في حق الشعب الفلسطيني بدت في لحظة من اللحظات متعارضة مع مصلحة أخري تمثلت في إطلاق عملية سلام حرص الجانب الأمريكي علي تأكيد رغبته في التوصل إليها.. وحقيقة الأمر فإنه يمكن فهم الخيار الذي فضل تأجيل اتخاذ قرار من تقرير جولدستون لعدة شهور في ضوء عاملين: أولهما يتمثل في الرغبة الأمريكية في إعطاء المزيد من الوقت لدبلوماسيتها للتحرك النشط، خاصة في ظل وجود حالة من الترقب لتطورات في الملف الفلسطيني خلال الأسابيع المقبلة علي النحو الذي أفصحت عنه بعض الدوائر الدبلوماسية العربية، وهو ما يوحي بقرب الكشف عن تفاصيل تحرك أمريكي يضع عملية صناعة السلام في المسار الصحيح فلسطينيا، أما العامل الثاني فيتصل بالموقف المعلن من قبل إسرائيل تجاه التقرير والتهديدات التي أطلقها رئيس وزرائها بوقف العملية السياسية الهادفة إلي تسوية قضايا الوضع النهائي، فضلا عما تم الإلماح إليه من تشدد علي مستوي التعاملات المالية والاقتصادية في حالة المضي قدما في إقرار توصيات القاضي جولدستون. وبناء علي ما تقدم فإن تأجيل اتخاذ القرار وليس سحبه بدا وكأنه حل وسط هدف إلي التوفيق بين عدم التخلي عن المصلحة المتصلة بتحقيق العدالة لضحايا تصرفات قوة الاحتلال من جانب، والمساعي المبذولة لإنهاء واقع الاحتلال من جانب آخر، خاصة أنه سيكون هناك فسحة من الوقت لللتعامل مع قضايا الانتهاكات والتي لا تسقط بالتقادم علي النحو الذي أكده امتداد محاكمات قيادات ألمانيا النازية عما تم ارتكابه في حق الشعب اليهودي إبان الحرب العالمية الثانية.. وعلي الرغم من ذلك، فإن القرار الذي تمخضت عنه المشاورات بين أعضاء مجلس حقوق الإنسان قد أثار جدلا واسعا وألحق ضررا جسيما بالمصالح الفلسطينية الحالية علي ضوء مجموعة من النقاط الرئيسية: * إن الموقف الفلسطيني من القرارات التي تمس المصالح العليا يلزم أن يكون نتاجا لتوافق فلسطيني يوفر له أرضية صلبة تجعل منه أداة يتم استخدامها في إطار تحرك استراتيجي يضع نصب أعينه هذه المصالح، وما يجب التركيز عليه علي المدي القصير وما يمكن السعي لتحقيقه علي المدي البعيد. * إن ما تردد علي لسان أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي من أن تأجيل طرح مشروع القرار للتصويت كان نتاج اتفاق أمريكي- فلسطيني، قد فتح الباب أمام محاولات استثمار الموقف في إطار الانقسامات الفلسطينية لتحقيق نقاط لطرف علي حساب طرف آخر. * ألقي الجدل الدائر حول قرار التأجيل ومبرراته العديد من علامات الشك حول حقيقة مراكز صنع القرار في السلطة الفلسطينية، وزاد الأمر تعقيدا مع إعلان رئيس السلطة عن تشكيل لجنة تحقيق في هذا الخصوص؛ حيث لم يعد من الواضح ما إذا كان الأمر يتعلق بتحديد المسئولية عن خطأ، أم يقتصر علي عرض المبررات علي الشعب، أو مجرد استيعاب ردود الفعل الغاضبة.