بلغ الهوس بالوصول إلي الكنوز والعثور علي آثار تجلب ثروات طائلة حد أن سقط منزل علي من فيه قبل أيام في نزلة السمان، الأمل الجامح والمسروق يسيطر علي الجميع.. صغاراً وكباراً.. والقصص التي تروي بلغت حد الأساطير.. تدعمها مشاهد بيوت خاوية.. خربة.. تركت.. ويفسر الناس أمرها بأن من كانوا يعيشون فيها قد عثروا علي الآثار التي تحتها بالفعل.. ونهبوا الغنيمة.. وهجروا البيوت. لقد أصدرت هيئة الأثار قرارات بمنع البناء والترميم في المنطقة.. واشترطت أن يتم الحصول علي تصريح مسبق من أجل الحفر لأي سبب.. لكن الظاهرة فوق القدرة علي السيطرة عملياً.. مخلفات الحفر تملأ الشوارع.. وتحت الغرف الأرضية.. وفي أقبية المنازل.. وخلف أستار الليل يحدث الكثير مما لايدري به أحد.. وصولاً إلي سقوط المنزل الأخير علي من فيه. روزاليوسف ذهبت إلي النزلة المهووسة.. وتابعت ما يجري.. وصورت آثار الحفر.. وجنون العثور علي كنوز الفراعنة والولع الأحمق بالوصول إلي خبيئة هنا أو هناك بعيداً عن أعين السلطات المختصة.. حيث يجري التنقيب الخصوصي عن الآثار. النزلة المهووسة الحكايات لا تنتهي.. وهي منتشرة بين الأجيال.. وصولاً إلي الأطفال الذين قابلنا بعضهم قرب موقع الحادث الأخير.. وجدنا أحدهم يتكلم عن أن أباه قد حصل علي خريطة تبين أن بيتهم الذي يبعد أمتاراً عن المنزل المنكوب يرقد فوق مقبرة أثرية.. وقال الطفل: أبي اشتري الخريطة من أحد الأثريين ب15 ألف جنيه.. ومعها تعليمات الحفر ومكانه والعمق المطلوب وكيف يمكن الوصول إلي باب المقبرة.. وأضاف الطفل: لكنه أجل العمل بسبب التشدد الأمني في المنطقة. مثل هذا الكلام لا يمكن الوثوق في دقته.. طفل يحكيه بلا دليل.. وحتي لو قابلنا أباه فسوف ينكره وينهر الولد.. لكن هذه الحكايات لها ظلال بين الناس.. جلسنا إلي مقهي صغير في النزلة.. وقلنا لقهوجي فيه إننا أقرب صاحب لبيت والد الطفل.. ونريد خبيراً يمكن أن يدلنا علي طريقة الحفر.. فعقب: أغلبهم لا يأتون الآن.. لأن الأمن موجود بعد انهيار البيت الأخير. خريجو الآثار وصفهم القهوجي بأنهم يعملون في المجلس الأعلي للآثار.. وقال: بعضهم خريجون في كلية الآثار.. ويعثرون علي هذه الخرائط في الكتب القديمة.. ومن وثائق فرعونية نادرة.. ولهذا السبب فإن الكثير من أبناء المنطقة يحاولون الالتحاق بكلية الآثار.. لكي يكونوا رسل أهاليهم وعائلاتهم إلي تلك الكتب وهذه الخرائط. كثير من البيوت في نزلة السمان أشبه بأكواخ وعشش.. لاسيما تلك التي تلاصق سور حرم منطقة الأهرامات.. ورغم وجود قرار يمنع البناء.. ورغم رصد أموال كبيرة لتعويض الأهالي لكي ينتقلوا من المنطقة إلا أنهم يتمسكون بالبقاء.. أملاً في العثور علي الخبيئة الموعودة.. حتي الذين انهارت منازلهم فإنهم يقيمون في الشارع داخل خيم مهلهلة.. وتجد عشرات من الأسر شيوخاً وأطفالاً وأمهات وآباء في الشوارع لأنهم لا يريدون أن يغادروا المكان.. يرفضون التعويض ويفترشون الأمتعة في الطرقات. كنز حياة (حياة)، سيدة في الستينات تقريباً، هي نفسها ليس لديها تقدير لعمرها.. قالت بعفوية حين (دردشنا) معها: عاوزينا نمشي ونسيب الكنز.. مش عاوزين تعويض.. غير أنها تمنت فقط أن يسمح لهم ببناء عشة.. لكي تبيت بها البنات التي تنام في الشارع. الحلم اختلق مهناً.. فالتنقيب يعني الحفر.. وقد أمتهن الكثيرون في المنطقة أعمل الحفر، شريف حمودة عمره 30 عاما وهو يعمل في الحفر منذ سنوات عشر.. ورغم أنه يؤكد أنه لم يشاهد إلي الآن أي تماثيل أو آثار أمام عينيه.. بعد أي حفر قام به.. حتي لو استمر يحفر ستين يوماً.. إلا أنه يبرر ذلك بقوله: أصحاب الأماكن المحفورة يطلبون منا أن نغادر عند عمق معين.. عمق حددته خريطة خبير مجهول.. حيث يستكملون بأنفسهم ومع أقاربهم عملية الحفر. حمودة قال لنا إن أجره في اليوم الواحد 250 جنيهاً.. مقابل الحفر المستمر من الثانية عشرة ليلاً إلي السابعة صباحاً.. مشيراً إلي أنها عملية تتطلب دقة وهدوء: لابد أن يكون الحفر قريباً من الصمت بدون صوت حتي لا يدري أحد بما يجري.. والمسألة تستوجب السرية التامة وقال حمودة: هناك آخرون لا يعملون في الحفر.. لكنهم يؤجرون أدواته.. خصوصاً السقالة التي يتم تأجيرها بمائة جنيه في اليوم الواحد. وأضاف: الحفر ممنوع.. ولا يمكن أن يتم إلا بتصريح من المجلس الأعلي للآثار.. حتي لو كان من أجل توصيل المرافق والخدمات.. وبعد معاينة مندوب الهيئة.. لكن هذا المنع لم ينف عثورنا علي كثير من الحفر في الشوارع والحواري.. بل ما يشبه الآبار العميقة.. وأكوام من الأتربة وسط البيوت.. غطيت ببعض الصفيح والقش. تصاريح الحفر سألنا أحد الأهالي عن تصاريح الحفر.. فقال عصام توفيق عمره 45 سنة: التصريح يحتاج رسوما كانت تتكلف 60 جنيهاً.. ثم ارتفعت إلي 150 جنيهاً فجأة.. ولهذا السبب ظهرت تصاريح مزورة.. بينما آخرون يحفرون ليلاً بدون أي تصريح بالطبع. وقال توفيق: لا يوجد بيت ليس به حفر.. لكن هذه مسألة رزق ونصيب.. لقد أرسل هذا الله إلينا.. في منطقتنا.. ومن وجهة نظره فإن من حق أهالي نزلة السمان النهوض بمستوي معيشتهم وهو لن يحدث إلا من خلال العثور علي هذه الكنوز. ومضي يفسر الأمر كما يراه: هناك منطقة منحها الله كنوز الزراعة.. ومناطق منحها الآن فرص الاستثمار التي تؤدي إلي توفير فرص العمل.. ونحن منحنا كنوز الآثار في منطقة قريبة من الأهرامات.. وقال مؤكداً: من جاور أبوالهول يسعد.. كما لو أنه يحاكي المثل الشعبي المعروف. لكن جيران أبوالهول ماتوا تحت الركام قبل أيام.. جثث بقيت قرابة أسبوع إلي أن عثرت عليها جهات الإنقاذ أسفل أنقاض بيت الحالمين بالكنز.. تطوير المنطقة الدكتور عبدالحليم نور الدين رئيس هيئة الآثار الأسبق قال: إن المجلس الأعلي تبني منذ سنوات خطة لتطوير المنطقة.. بدءاً من حل مشكلة المياه الجوفية التي تهدد المنطقة الأثرية.. بالإضافة إلي القضاء علي العشوائيات التي تحيط بالمنطقة.. وفي الدراسات التي أجريت تم النص علي ضرورة إزالة بيوت نزلة السمان بأكملها.. خاصة تلك التي تجاور الأهرامات لأنها تسبب رشح المياه.. فضلاً عن تشويه المشهد الأثري الحضاري للمنطقة عموماً.. ورغم أنه أقرت تعويضات.. ورغم مضي عدة سنوات إلا أن اعتراضات الأهالي أعاقت عمليات التنفيذ. وأضاف: زيادة العشوائيات لا تؤدي إلي زيادة المياه الجوفية فحسب.. بل تساهم في تآكل الأحجار وتقضي عليها.. وهذه العشوائيات لابد أن تزال وليس أن تتطور. احتراف التنقيب الدكتور محمود الجهيني، وكيل كلية الآثار في جامعة جنوبالوادي، قال إن هناك دراسات متنوعة تفيد أن المنطقة الأثرية في الأهرامات تأثرت بالعشوائيات.. ومشكلة النزلة الأساسية هي تجارة الآثار والاحتراف في التنقيب والبحث بعيداً عن أعين الحكومة وبالمخالفة للقوانين. وهذه التحذيرات لا تصل إلي أذن أي أحد من سكان المنطقة.. وإن وصلت فإنهم يصمون آذانهم عنها.. ولايسمعون سوي نداء الكنز الذي يحلمون به.. نداء قد يقود إلي الموت.. وقد قاد بالفعل إلي ذلك قبل أيام.