بعد أن ألقي أوباما خطاب تنصيبه رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية دخل إلي القاعة الرئيسية بالبيت الأبيض ثم مر من خلالها إلي طرقات القصر الفخم متجهاً إلي الدور العلوي حيث مكتبه الرئاسي، وكما جرت العادة فإن الرئيس سوف يدخل مكتبه البيضاوي منفرداً ليقرأ ملفين لا ثالث لهما، هذان الملفان قد ارسلا بمعرفة جهاز المخابرات المركزية الأمريكية، يعلو الأول كلمة سري للغاية ويعلو الملف الثاني كلمة استراتيجية الأربع سنوات، في الملف الأول سيتم سرد العمليات المشينة والقذرة ومنها عملية اغتيال جون كنيدي بهدف ردع الرئيس المنتخب، والثاني لتحديد الإطار العام للمصالح الأمريكية علي مستوي العالم، ومنه هنا تتكشف لنا حقيقة مهمة، وهي أن الاستراتيجية الأمريكية هي عملية أكبر من رئيس سيحكم علي مدار 8 سنوات علي أقصي تقدير، وبالتالي فهي عملية متواصلة يتتابع في تنفيذها رئيس بعد الآخر والاختلاف فقط في أسلوب كل رئيس، وهذا فقط هو الفرق بين سياسة بوش واوباما لكن هدف الرجلين واحد، والخطأ الذي نقع فيه دائماً ويقع فيه كثيرون هو عدم التفرقة بين السياسة والاستراتيجية. إذا كانت السياسة لعبة المتغيرات فإن الاستراتيجية هي علم الثوابت، ولابد لنا أن نفرق بين الاثنين، فالاستراتيجية تتعامل مع المصالح الثابتة للدولة في حين ان السياسة تتغير بتغير التكتيكات، والسياسة هي علم إدارة الملفات، أما الاستراتيجية هي علم تحديد التوجهات والأهداف وتنفيذها، والسياسة هنا تلعب دورها في التنفيذ فقط، وباراك اوباما يلعب السياسة لتنفيذ الاستراتيجية الأمريكية، ومن السذاجة أن نتخيل أن الرجل جاء ليغير سطراً أو كلمة واحدة في الاستراتيجية الأمريكية التي تستهدف السيطرة والبقاء علي قمة العالم، ضمان اخضاع الشرق الأوسط للمصالح الأمريكية، وعليه فإن الاختلاف السياسي بين أوباما وسابقه، هو أن بوش الابن جاء ليحقق هدفين للاستراتيجية الأمريكية في افغانستان والعراق، ولعلنا نتذكر أن التحفز الأمريكي ضد افغانستان جاء في عهد كلينتون عندما اتهم كلينتون طالبان باضطهاد الأديان بعد تحطيم تماثيل بوذا وكان هناك سعي أمريكي فعال لضرب افغانستان، ومن هنا نستنتج أن ضرب أفغانستان لم يكن بسبب 11 سبتمبر فقط وانما وفقاً لتوجه استراتيجي أمريكي، وكذلك فإن العراق احتلت تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل وقبل ذلك كان بيل كلينتون يقصف العاصمة بغداد عام 1998 بهدف خلخلة أوضاع النظام العراقي الداخلية تمهيداً لانقلاب تم الكشف عنه لاحقاً، وكذلك فإن أوباما جاء لتحجيم الوجود الإيراني في المنطقة وضمان استعادة الولاياتالمتحدة لتوازنها كقوة عظمي وحيدة علي عرش العالم. لذلك فإن التغير الذي طرأ علي سياسة أمريكا في عهد أوباما هو مرحلة تكتيكية تستهدف بها الولاياتالمتحدة تغيير لعبة العولمة التي ثبت ضعفها علي مدار الست سنوات الماضية بعد اختفاء اتفاقية الجات من علي الخريطة الاقتصادية العالمية بدافع خوف أمريكا والاتحاد الأوروبي من تنامي النفوذ الاقتصادي للصين، لذلك فإن نموذج الديمقراطيات وحقوق الإنسان سوف يختفي إلي حد كبير من أولوية الإدارة الأمريكية الحالية خصوصاً أنها كانت بنداً أساسياً في استراتيجية الضغط الأمريكي وهي نفسها تتسق مع نموذج العولمة الذي أرادته الولاياتالمتحدةالأمريكية سابقاً، ولكن في عالم ما بعد الأزمة المالية العالمية فإن اللعبة اختلفت، وفي ظل تنامي دور بعض القوي الإقيليمية، فإن علي أوباما أن يدير الأمور بشكل مختلف فهو الرجل الأسود الذي صعد إلي قمة السلطة في بلد أغلبيته من البيض، وكان ذلك ملهماً بشكل كاف للمخطط الاستراتيجي الأمريكي الذي وضع نصب عينيه أبواب أفريقيا المفتوحة لابن جلدتها، وهو نفسه في تناوله لسياسته الجديدة بدأ يخطط للمشروع الأمريكي الذي اعتمد علي الطائفية بدلا ً من الديمقراطية، والعرقية مقابل حقوق الإنسان، وتلك هي أدوات الأمريكية في تفكيك المشهد العالمي وإعادة تركيبه وفقاً لرؤية تحقق بديلاً واضحاً ومستقبلياً وفعال أكثر من العولمة، ويتضح لنا ذلك في تنامي الخطاب العرقي وصعود نبرة الأقليات من المنابر الأمريكية إلي العالم كله، وظهر ذلك بوضوح أثناء أزمة المسلمين في الصين وكيف أن المنابر الأمريكية التي كانت تتحدث باسم حقوق الإنسان والديمقراطية وجهت خطاباً عالمياً جديداً يستهدف تأجيج الفتن واحياء الصراعات الاقليمية. وسوف نشهد قريباً تركيزاً أمريكياً علي الشخصيات السياسية صاحبة الخلفيات الطافية أوالعرقية ، وسنري صعود نبرة الطائفة والعرق. أخيراً إن الظاهر علي خريطة الأحداث الداخلية داخل مصر سوف يضعنا أمام حسابات اجتماعية معقدة، خصوصاً وأن الضغط في الشهور والسنوات القادمة لن يكون في ملف الديمقرطية وحقوق الإنسان والتي يعتبرها الناس نوعاً من الرفاهية، فالملف الطائفي يمس الناس كثيراً وهو القادر أكثر من الديمقراطية علي اثارة كاملة المجتمع وتحريكه، ويبقي أن أوباما رجل سياسي تربي في مدرسة المصالح التي لا تعترف سوي بتحقيق الأهداف وليس العواطف وتطييب الخواطر والتعاون الأخوي مع كل العالم. للسياسة توازن وللتاريخ مواقف وللحياة مواطن ولفكر ثوابت.